Search

“سوريا ما بعد الأسد: بين معركة بناء الدولة وعبث حرية الرأي والتنظير الأجوف “

بعد سنوات من التضحيات الجسيمة والنضال المستمر ضد الاستبداد، تقف سوريا اليوم أمام استحقاق تاريخي يتطلب من الجميع التكاتف لتحويل الحلم إلى واقع. فهل نحن على قدر المسؤولية التي تفرضها هذه المرحلة؟ وهل سنتمكن من بناء دولة تليق بتضحيات شعبنا، أم أن الفوضى ستبتلع ما تبقى من وطن أنهكته الحروب والصراعات؟

الجواب واضح: أمامنا خياران لا ثالث لهما، إما بناء دولة قوية ومؤسسات راسخة، أو السقوط في هوة الانقسام والصراعات التي قد تلتهم كل شيء.

سوريا اليوم تقف على مفترق طرق بعد سقوط النظام الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لأكثر من خمسين عامًا. النظام الذي أمعن في تقسيم المجتمع السوري وتدمير مؤسساته، حتى أصبحنا نعيش في فوضى لا تشبه إلا ما شهدته البلدان التي تعيش تحت وطأة الحروب الأهلية. لكن، مع سقوط هذا النظام الطائفي الاستبدادي، دخلنا في مرحلة انتقالية معقدة، ولا تزال العديد من القوى الداخلية والخارجية تراهن على مستقبل سوريا وفق مصالحها الخاصة.

إياكم أن تظنوا أن إسقاط النظام كان نهاية الطريق. من يظن أن إسقاط بشار الأسد يعني أن سوريا أصبحت في طريقها إلى السلام والاستقرار فهو واهم، بل هو في قلب المعضلة. بناء دولة جديدة ليس عملية سهلة، ولا يمكن أن تكون مجرد تصورات رومانسية عن المستقبل. النظام الذي أسس لهيمنة الطائفة العلوية على مفاصل الدولة واحتكر السلطة والمقدرات لم يكن مجرد طاغية، بل كان آلة هدم حقيقية. من المؤكد أن سقوط هذا النظام، في ظاهره، يعني نهاية عهد الظلم، ولكنه فتح بابًا على مصراعيه أمام تحديات أكبر من أي وقت مضى.

أيها المنتقدون في الداخل والخارج، أولئك الذين يظنون أن إلقاء اللوم على الحكومة الانتقالية هو الحل السحري: هل تعلمون حقيقة الأمور؟ هل تعرفون ماذا يعني بناء دولة من تحت الأنقاض؟ هل تدركون حجم الدمار الذي خلفه النظام في جميع جوانب الدولة؟ الاقتصاد المدمر، المؤسسات المدمرة، الشعب الممزق بين طوائف وأيديولوجيات متناقضة، أضف إلى ذلك التدخلات الإقليمية والدولية التي أصبحت تتشابك مع كل خطوة نحو الاستقرار.

من يظن أن بناء الدولة هو مجرد شعارات فارغة لا يعرف شيئًا عن الواقع المرير الذي نعيشه. من يقف على أطراف المشهد وينظر بعين ناقدة فقط، ويشبع منصاته على وسائل التواصل الاجتماعي بالكلمات الفارغة، يساهم في هدم ما تبقى من فرص لبناء وطن يستحقه الشعب السوري. هذه ليست مرحلة للكلمات الجوفاء، ولا وقت للمزايدات السياسية.

إن من يتحدث عن “الحرية” و”الديمقراطية” ويطالب بتطبيقها على الفور، دون أن يعي الظروف المحيطة، يتجاهل تمامًا أن هذه الأمور لا يمكن أن تُفرض في دولة ممزقة مثل سوريا، بعد أن دمرتها حرب طاحنة وحكم استبدادي لعقود. الحرية لا تأتي بالتمني، بل تُبنى، وتُزرع، وتتطلب تضحيات وأوقاتًا طويلة.

لقد آن الأوان لتقفوا جميعًا أمام مسؤولياتكم. لا مجال لدموع التماسيح أو الصراخ الفارغ. نحن اليوم بحاجة إلى رجال ونساء يضعون مصلحة الوطن فوق كل شيء، ويكفّون عن هذا الهجوم المستمر الذي يطعن في كل خطوة تُتخذ. من يظن أنه يملك الحق في إسقاط مشاريع البناء لمجرد أنها لا تلبي تطلعاته الشخصية أو الحزبية، عليه أن يعيد حساباته. سوريا ليست ملكًا لأحد، وليست ساحة لتصفية الحسابات السياسية.

لن يكون الطريق إلى الاستقرار سهلاً، فالمهام ثقيلة. بناء مؤسسات الدولة من الصفر يتطلب أكثر من مجرد قرارات عشوائية. بل يتطلب قدرات سياسية وإدارية عالية، ومهنية في إدارة الموارد، وأسلوب حازم في التعامل مع القوى الداخلية التي تسعى إلى تدمير ما تبقى من أمل. في هذا السياق، فإن التعامل مع التنوع الطائفي والعرقي الذي تروج له بعض الأطراف الخارجية كأداة للتفرقة، يتطلب منا الوعي الكامل بأن هذا البلد ليس ملكًا لأي طائفة، بل هو وطن لكل السوريين، مهما كانت اختلافاتهم.

أيها المتهافتون على النقد من بعيد، انظروا إلى ما فعلته سنوات الحرب بهذا الشعب، انظروا إلى ما فعله النظام من تحطيم للمؤسسات وتدمير للبنية التحتية، لا تكتفوا بترديد الشعارات الفارغة، وتوقفوا عن تعميم الاتهامات على الحكومات الانتقالية التي تسعى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. التغيير لا يأتي عبر وسائل الإعلام أو الفيسبوك، بل عبر الجهد الحقيقي، والنوايا الصادقة، والعمل الجماعي.

فلنكن واضحين، نحن في مرحلة البناء، وليست هناك وقت للعبث أو التراشق بالكلمات. بناء دولة جديدة يتطلب من الجميع، من جميع الأطراف، أن يتحملوا مسؤولياتهم. لا مزيد من الهدم، ولا مزيد من التشكيك في كل خطوة. سوريا ليست مشروعًا حزبيًا أو فرديًا، بل هي مشروع شعب بأكمله. إذا كانت الدولة ستنهض، فإنها ستنهض بكل السوريين، وكل واحد منا مسؤول عن بناء هذا المستقبل أو هدمه.

إن كان لديكم الحب لهذا الوطن، فاثبتوا في مرحلة البناء، ولا تكونوا أداة لهدمه. لا تدعوا الأحقاد والاختلافات تسيطر عليكم، لأن الوقت لم يعد يسمح بمزيد من الضياع.

بقلم  عبدالله عبدون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top