النظام الرئاسي وكما تبناه المؤسسون الأمريكيون كان تطويراً للنظام الملكي المطلق الذي كان سائداً في القارة الأوربية مع فارق مهم هو استبدال رئيس منتخب بالملك مع الفصل شبه التام بين سلطاته والسلطة التشريعية التي يتولاها “الكونغرس” إذ أراد واضعو الدستور الأمريكي تقوية مركز رئيس الجمهورية وتدعيم سلطته الفعلية.
صحيح أن النظام الرئاسي مشتق من كلمة “الرئيس” وهو الأمر الذي يدل على المكانة الخاصة التي يتمتع بها رئيس الدولة فيه، بيد أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال تركيز السلطة في يد الرئيس، وإنما الصحيح هو تركيز “السلطة التنفيذية” فقط في يد رئيس الدولة باعتباره رئيس الحكومة في الوقت ذاته من دون تركيز جميع السلطات من تشريعية وقضائية بين يديه ، ذلك لأن لوظيفة التشريع هيئة قائمة ومستقلة بذاتها هي البرلمان، ولوظيفة القضاء جهة مستقلة تمارسها على نحو مستقل عن رئيس الدولة، هي المحاكم بمختلف درجاتها.
هذا المركز المتفوق الذي يتمتع به الرئيس في هذا النظام هو الذي دفع الدكتور عبد الحميد متولي لتعريف النظام الرئاسي بأنه “ذلك النظام الذي يتقرر فيه للرئيس الرجحان في كفة ميزان السلطان”.
ويتميز النظام الرئاسي بعدد من الخصائص التي تميزه عن غيره من النظم السياسية وهي:
- رئيس منتخب من قبل الشعب: يقوم النظام الرئاسي على أساس وجود رئيس دولة منتخب من قبل الشعب، وهذا شرط مهم يجد تبريره في تلك السلطة الفعلية المركزة في يد الرئيس والتي تجد أساسها الديمقراطي الشرعي في انتخاب الشعب للرئيس.
هذه الخاصة تعني أن ثمة تعارضاً مطلقاً بين النظام الرئاسي والنظام الملكي، ففي النظام الأخير يصل رئيس الدولة إلى السلطة بطريق الوراثة، أما في النظام الرئاسي فيحتل الرئيس منصبه عن طريق الانتخاب بمعنى أن النظام الرئاسي يفترض حتماً نظاماً للحكم له الشكل الجمهوري لا الملكي. وهنا لا يشترط أن يتم انتخاب الرئيس مباشرة من قبل الشعب بمعنى أنه ليس لازماً أن تقوم “هيئة الناخبين” ـ المكونة من كل من له حق مباشرة الحقوق السياسية ـ باختيار رئيس الدولة مباشرة من دون وساطة لأن من الممكن أن يتم انتخاب الرئيس على درجتين بحيث تقوم هيئة الناخبين بانتخاب مندوبين يتولون بالنيابة عنها اختيار الرئيس. ويبدو أن اشتراط الانتخاب الشعبي للرئيس ـ سواء أكان مباشراً أم غير مباشرـ قصد منه وضع الرئيس في مركز مساوٍ للبرلمان الذي ينتخب أعضاؤه من قبل الشعب، بل إن ذلك الانتخاب يضعه من الناحية الواقعية في مركز متميز من البرلمان لأنه منتخب من جميع أفراد الشعب وحائز موافقة أغلبية أفراده، في حين أن أعضاء البرلمان لم يحوزوا إلا ثقة أغلبية الناخبين في دائرة معينة
- تركيز السلطة التنفيذية في يد الرئيس: ففي النظام الرئاسي يستقل رئيس الدولة بممارسة السلطة التنفيذية قانونياً وواقعياً حيث يجمع بين صفتي رئيس الدولة ورئيس الحكومة، أي إن هذا النظام لا يعرف فكرة التمييز بين منصبي رئيس الدولة ورئيس الحكومة، وهو الأمر الذي يميز النظام الرئاسي من نظيره البرلماني والذي يكون فيه رئيس الدولة صاحب السلطة اسمياً فقط من دون أن يباشرها بنفسه من الناحية الواقعية، وهو ما يعبر عنه بعبارة: “رئيس الدولة يسود ولا يحكم” ذلك أن اختصاص مباشرة السلطة التنفيذية في النظام البرلماني يعود إلى الوزارة وحدها.
أما في النظام الرئاسي فرئيس الدولة هو الذي يمارس وبنفسه اختصاصات السلطة التنفيذية فهو الذي يسود ويحكم في الوقت ذاته، فهو الذي يقوم بتمثيل الدولة في المؤتمرات الدولية لكونه صاحب الحق في وضع سياستها العامة والتي تطبق في الداخل وفي الخارج في علاقاتها الدولية، وهو صاحب الحق في تعيين الموظفين وعزلهم، وهو صاحب الاختصاص العام في مجال تنفيذ القوانين وإدارة شؤون الحكم، حيث تنفذ قراراته مباشرة من دون حاجة إلى توقيع وزير أو رئيس وزراء عليها لتنفذ، أما الوزراء فهم مجرد مساعدين لرئيس الدولة، يقتصر عملهم على تنفيذ سياسته وأوامره، ونتيجة لتركز السلطة التنفيذية في يد الرئيس فلا وجود في النظام الرئاسي لما يسمى بـ”مجلس الوزراء” بالمعنى الفني والسياسي المعروف في النظام البرلماني، وبالتالي لا وجود لـ”رئيس مجلس الوزراء” ويمكن القول: إن الوزراء في النظام الرئاسي يخضعون لرئيس الدولة خضوع المرؤوس لرئيسه الإداري الأعلى في السلم الإداري، وبالتالي فالقرار الصادر عنهم عند اجتماعهم مع الرئيس لا يعد قراراً صادراً عن مجلس الوزراء وإنما ينسب فقط إلى رئيس الدولة.
ومن مظاهر تفوق الرئيس في المجال التنفيذي حريته في اختيار وزرائه من دون أن يكون مقيداً برأي الأغلبية البرلمانية إذ يكون له الحق في تعيين الوزراء وعزلهم، بحيث يدين هؤلاء بوجودهم في مواقعهم بهدف تنفيذ السياسة التي قررها هذا الرئيس للرئيس وحده، وإذا حدث أن خالف أحدهم هذه السياسة أو حاول وضع سياسته الخاصة من دون الالتفات إلى السياسة التي قررها الرئيس كان لهذا الأخير الحق في عزله وإبعاده عن منصبه واختيار وزير آخر يكون أكثر التزاماً في أداء واجبه ضمن السياسة العامة للدولة التي انفرد الرئيس برسمها.
- الفصل شبه المطلق بين السلطات: يقوم النظام الرئاسي في نموذجه النظري على مبدأ فصل الهيئتين التشريعية والتنفيذية واستقلالهما في مباشرة اختصاصاتهما بحيث تستقل السلطة التشريعية بمباشرة اختصاصها في وضع القواعد العامة والمجردة عن السلطة التنفيذية والتي تستقل هي أيضاً في ممارسة اختصاصاتها، الأمر الذي يعني نظرياً انعدام أي علاقة تعاون بين هاتين السلطتين، وذلك على عكس النظام البرلماني الذي يقوم على أساس التعاون والرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية نظراً لتبنيه مبدأ الفصل النسبي أو المرن.
ففي النظام الرئاسي تستقل السلطة التشريعية بممارسة وظيفتها كما حددها الدستور وذلك من دون أدنى مشاركة لها من السلطة التنفيذية، ومن هنا امتنع على رئيس السلطة التنفيذية دعوة البرلمان إلى الانعقاد، كما لا يجوز له فض اجتماعات البرلمان أو تأجيل أدوار انعقاده أو وضع حد لوجوده القانوني من خلال “حله” قبل حلول الأجل المحدد قانوناً لإجراء الانتخابات الجديدة، وذلك على عكس النظام البرلماني والذي تتمتع به السلطة التنفيذية بالقدرة على حل البرلمان وذلك كسلاح مقابل وموازن لحق البرلمان في تحريك المسؤولية السياسية للوزارة وإجبارها بالتالي على الاستقالة أحياناً.
كما أن من مقتضى استقلال السلطة التشريعية في ممارسة وظيفتها التشريعية عدم قدرة السلطة التنفيذية على الاشتراك معها في ذلك بأي صورة من الصور، فلا تستطيع تلك الأخيرة أن تقدم أي اقتراحات بقوانين حتى لو كانت ذات طبيعة مالية ، وكل ما يسمح به من جانب السلطة التنفيذية هو تقديم تقرير سنوي يبين الحالة المالية للدولة ومصروفات الحكومة في السنة المنقضية واحتياجاتها للسنة الجديدة.
عدا عن أن الجمع بين منصبي الوزارة وعضوية المجلس النيابي غير جائز في النظام الرئاسي إذ لا يمكن تعيين الوزراء من بين أعضاء البرلمان، ولو حصل أن قام رئيس الدولة باختيار بعض وزرائه من بين أعضاء البرلمان فعلى هؤلاء أن يقدموا استقالتهم من البرلمان مباشرة ليتم انتخاب من يحل محلهم، ولا يحق للوزراء حضور اجتماعات المجلس بصفتهم هذه لشرح سياسة الرئيس أو الدفاع عنها أو حتى الاشتراك في المناقشات البرلمانية أو الاقتراع على القوانين، وإن كان لهم ـ إن أرادواـ الحق في الحضور إلى البرلمان لمشاهدة جلساته فإنه بصفتهم أفراداً عاديين فقط من دون أن يكون لهم الحق في الاشتراك في النقاش.
وكما يستقل البرلمان في ممارسته لوظيفته التشريعية عن السلطة التنفيذية فإن هذه الأخيرة تستقل في ممارستها لوظيفتها عن البرلمان، فمن ناحية ليس لهذا الأخير أي سلطة بمواجهة رئيس الدولة والذي يستمد سلطته ـ شأنه شأن أعضاء البرلمان ـ من الشعب الذي قام بانتخابه من دون أدنى تدخل من البرلمان.
ومن ناحية أخرى لا يكون للبرلمان أي سلطة في مواجهة الوزراء، فلا يكون له أي حق في محاسبتهم أو مراقبة أعمالهم من خلال وسائل الرقابة المعروفة في النظام البرلماني كتوجيه الأسئلة أو الاستجوابات أو تقرير مسؤوليتهم السياسية أمامه ونزع الثقة عنهم، لأن الوزراء مسؤولون أمام رئيس الدولة وحده، بل الأكثر من ذلك أن البرلمان لا يملك أي حق في محاسبة الرئيس سياسياً وإن كان له هذا الحق من الناحية الجنائية إذ يمكن للرئيس ووزرائه أن يكونوا موضع اتهام ومحاكمة عن الجرائم التي يرتكبونها.
من خلال ما سبق يتضح أن النظام الرئاسي يعمل على إقامة الفصل شبه المطلق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بهدف تحقيق المساواة الكاملة بين هاتين السلطتين واستقلال كل سلطة عن الأخرى استقلالاً كاملاً، بحيث لا يجوز لإحدى السلطتين التدخل في عمل السلطة الأخرى.
ومع ذلك يقرر الفقه أن هذا الفصل الجامد بين السلطات ـ كما يقرره النظام الرئاسي من الناحية النظرية ـ غير متحقق عملياً إذ إن الدساتير التي أخذت بهذا النظام لطفت من حدته من خلال تقريرها للعديد من الاستثناءات .
بقلم مرهف الشهاب