د. مصطفى محمود سليخ
في سياق التحولات السياسية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمعات، وفي ظل الانكسارات المتكررة التي تصيب التجارب التغييرية في مقتل، تتعالى أصوات الغضب والرفض، وتتسع رقعة المحتجين والمعارضين، ويرتفع منسوب السخط الشعبي حتى يغدو “الرفض” في ذاته مظهرًا من مظاهر الشجاعة والبطولة. غير أن الساحة الفكرية والسياسية اليوم تفرض سؤالًا وجوديًا ملحًّا: هل تكفي المعارضة وحدها لإحداث التغيير؟ أم أننا بحاجة إلى الانتقال من مجرد الاحتجاج إلى بناء مشروع حضاري بديل؟
إن الجدل حول قيمة المعارضة وجدواها لا يتعلق بشرعيتها في حد ذاتها، بل بفاعليتها وبما تقدّمه من رؤية متماسكة تعكس وعيًا بالمآلات، وتقدّم حلولًا واقعية متجذّرة في سياقها الحضاري والثقافي.
أولًا: المعارضة بين الرفض المشروع والمأزق الاستهلاكي
من المسلّم به أن المعارضة تمثّل ركيزة أساسية في البناء السياسي والاجتماعي، لا سيما في النظم التي تسعى إلى التوازن بين السلطة والمجتمع. لكن المعضلة تظهر حين تتحول المعارضة إلى حالة مزمنة من الاستهلاك السياسي، قائمة على ردة الفعل لا الفعل، وعلى الانفعال لا الوعي، وعلى النقد الهدّام لا الرؤية البديلة.
في هذا السياق، قد يصحّ ما قاله مالك بن نبي رحمه الله حول القابلية للاستعمار فإنها لا تزول بالصراخ، بل ببناء الإنسان القادر على الاستقلال. والمعارضة التي لا تُنتج وعيًا بنائيًا، ولا تحمل مشروعًا يعالج جذور الإشكال، تظلُّ حبيسة الانفعال ومحدودة الأثر، بل قد تُعيد إنتاج البنية ذاتها التي تسعى لتقويضها.
ثانيًا: النموذج النبوي للمعارضة: من الرفض إلى البناء
لقد قدمت السيرة النبوية نموذجًا فريدًا للمعارضة البناءة، حيث لم يقتصر النبي ﷺ على رفض واقع الشرك والفساد في مكة، بل كان يحمل مشروعًا بديلًا متكاملًا في العقيدة، والقيم، والبنية المجتمعية. يقول تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ (يوسف: 108). إنها دعوة قائمة على السبيل الواضح، لا مجرد الرفض الشعاري.
وعندما انتقل إلى المدينة المنورة، لم يُقدّم خطابات حماسية فحسب، بل بدأ في تأسيس مجتمع جديد يقوم على أرضيات مهمة منها:
- وثيقة المدينة كأول عقد اجتماعي جامع بين أطياف المجتمع.
- بناء المسجد كنواة روحية وإدارية.
- المؤاخاة كصيغة جديدة للتكافل والاندماج.
- إنشاء السوق الإسلامي كخطوة نحو الاستقلال الاقتصادي.
وهكذا كانت المعارضة في التجربة النبوية رؤيةً ورسالةً، لا غضبًا فارغًا، إنها معارضة بنّاءة، لا مجرد ردّ فعل، نموذج يقيم الحجة لا السجال.
ثالثًا: متى تكون المعارضة خيانة للوعي؟
لقد عدَّ أبو بكر رضي الله عنه امتناع دفع الزكاة خيانة لله ورسوله وردة عن دينه؛ فحاربهم عليها، وإذا أمعنَّا النظر رأينا أنَّ معارضتهم كانت هدمًا لمشروع لا بناء.
قد يتحوّل بعض أشكال المعارضة من أداة للتصحيح إلى أداة لتعميق الأزمة إذا ما افتقرت إلى التوازن، أو استسلمت للشعبوية، أو تبنّت خطابًا هدامًا لا يقدّم بدائل واضحة. لقد وضَّح سيد قطب أهمية وضوح الرؤية وصراحة الرسالة في كتابه “معالم في الطريق” عندما قال: “ولم تكن الدعوة في أول عهدها في وضع أقوى ولا أفضل منها الآن… ولكنها مع هذا كله كانت قوية، كما هي اليوم قوية، وكما هي غداً قوية… إن عناصر القوة الحقيقة كامنة في طبيعة هذه العقيدة ذاتها … إنها تكمن في هذا الحق البسيط الواضح الذي تقوم عليه … كما أنها تكمن في صراحتها هذه وهي تواجه الجاهلية بكل قواها المادية:”.
رابعًا: العمل لا الكلام
ليست القضية أن نرفض الجاهلية فحسب، بل أن نقدم بديلًا إسلاميًا ناضجًا، يكون جذابًا وواقعيًا.
نعم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها”. غير أن هذا القول العظيم لا يعني تبنِّي مواقف معارضة فقط لإثبات الذات أو كسب التعاطف، بل يستوجب المشاركة في بناء الوعي الجماعي. وهذا ما يدل عليه فعله رضي الله عنه من خلال حثِّ الناس على قول الحق مع وعي ومشاركة من خلال حياته العملية. الفرق شاسع بين من يعارض لأنه يؤمن بقضية، ومن يعارض لأنه يُقصى من السلطة. المعارضة الحقيقية ليست صراعًا من أجل السلطة، بل التزامًا بمسؤولية الإصلاح من داخل المجتمع.
وفي هذا السياق يجب أن تقف المعارضة مع نفسها بصدق، وتسأل نفسها سؤالاً صريحاً: هل نملك بديلاً حقيقيًا؟ أم مجرد احتجاج؟
أن ترفض فساد السلطة، سوء التعليم، انحراف الإعلام… فهذا أمر طبيعي، لكن، ماذا بعد؟
- هل نملك رؤية بديلة؟
- هل لدينا منظومة قيم ومفاهيم جديدة؟
- هل نستطيع إدارة الدولة بمبادئ مختلفة؟
خامسًا: من نقد الأشخاص إلى نقد المنظومات
المعارضة الناضجة لا تستهدف الأشخاص، بل تتوجّه إلى نقد السياسات والمنظومات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية. في هذا الإطار، تُقدَّر المعارضة بقدرتها على تفكيك البنية العميقة للأزمات، واقتراح بدائل واقعية تستند إلى مرجعية قيمية متماسكة.
لقد امتنعت النصوص النبوية عن خطاب الشتيمة والتجريح. لم يُخاطب النبي ﷺ قريشًا بلغة التهكم على الرغم مما فعلته ضد الدعوة طيلة سنين ما قبل الفتح، بل جاء الخطاب بلغة الدعوة والموعظة والبيان. يقول الله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَبِّكُمْ﴾ (الأنعام: 104). إنها بصائر تُخاطب العقل والضمير، وتطالب بالفاعلية العملية.
سادسًا: ملامح المشروع الحضاري البديل إن ما ينقص كثيرًا من الحركات الاحتجاجية والمعارضة في واقعنا العربي والإسلامي، ليس فقط البعد الأخلاقي، بل غياب المشروع الحضاري المتكامل، الذي يُعيد تعريف الدولة والمجتمع وفق رؤية نابعة من قيمنا. ومن هنا، فإن استعادة روح المشروع الإسلامي تتطلب:
- بناء إنسان حرّ يؤمن بكرامته ودوره لا يعيش في هامش التاريخ.
- إنتاج فكر سياسي يُزاوج بين المبدأ والواقعية.
- تأسيس اقتصاد يوازن بين العدالة والكفاءة.
- تجديد الخطاب الديني ليكون محرّكًا للنهضة لا عائقًا أمامها.
- صناعة إعلام صادق يحرر العقول لا يضللها.
سادسًا: نحو خطاب معارض راقٍ وفعّال المعارضة التي نحتاجها اليوم، ليست تلك التي ترفع الصوت وتكثر الشعارات، بل تلك التي:
- تعارض بوعي لا بغضب أعمى.
- تقرأ الواقع وتفككه، لا تردّ عليه بانفعال.
- تملك مشروعًا نهضويًا، لا مجرد ردة فعل.
- تنتقد السياسات لا الأشخاص، وتطرح البدائل لا الشتائم.
ختامًا: من الاحتجاج إلى النهضة
لا تكفي المعارضة لبعث الحياة في جسد الأمة، ما لم تتحول إلى فعل بنائي واعٍ، وما لم تقترن بالبديل الحضاري الذي يلهم الجماهير، ويمنحها أفقًا تتطلع إليه.
إن مجرد أن نقول “لا” لا يصنع الفرق. لكن أن نقول: “لا، وهذه رؤيتنا، وهذا مشروعنا، وتلك قيمنا”، فذلك هو المعنى الحقيقي للمسؤولية والقيادة.
المعارضة بلا مشروع… كمن يصيح في وادٍ، لا يسمعه أحد، ولا يحمله صوت إلى مستقبل.