د. مصطفى محمود سليخ
حين خرجت أوروبا من رماد الحرب العالمية الثانية، كانت مدمّرة اقتصاديًا، مهشّمة سياسيًا، مفككة اجتماعيًا. عندها لم يكن يكفي “رفع العقوبات” ولا مجرد “التطبيع”، بل احتاجت إلى خطة شاملة لإعادة الإعمار، عُرفت لاحقًا بـ”خطة مارشال”، التي قدّمتها الولايات المتحدة للأوروبيين كفرصة للخروج من دوامة الفقر واليأس… والارتهان.
فهل نحتاج نحن ــ كمسلمين، وكشعوب خرجت من عقود من الحصار، والقمع، والانهيار ــ إلى “خطة مارشال إسلامية”؟
لكن… ما معنى هذا المصطلح؟ وهل من الحكمة استعارة النموذج الغربي؟ وأين العلماء والفقهاء من هذا كله؟
الأزمة ليست فقط في الحجر، بل في الفكرة
رفع العقوبات ـ إن صدق ـ قد يحرر التدفق المالي، ويخفف من وطأة الفقر، ويفتح أبوابًا للاستثمار، لكن هل نحن جاهزون لعالم ما بعد الحصار؟ أم أننا ـ كما كنا قبل الحصار ـ بلا خطة، بلا مشروع، نرتجل في يومياتنا، ونعيش على ردات الفعل؟
إن الأزمة الأعمق من الحصار الخارجي، هي الفراغ الداخلي: فراغ في التصور، في التنظيم، في الإدارة، في العدالة، في الاقتصاد القائم على الربا والاحتكار، في التعليم القائم على التلقين، في دولة بلا مؤسسات حقيقية.
خطة مارشال إسلامية؟ نعم، ولكن…
ليست الدعوة هنا إلى نسخ نموذج أوروبي أو أمريكي، بل إلى استدعاء مبدئي لفكرة الإنقاذ الشامل، ولكن بأسس مستقلة، راشدة، مستمدة من قيمنا الإسلامية وتجاربنا التاريخية، ومعطيات واقعنا المعاصر.
فنحن لا نحتاج مجرد ضخ أموال، بل إلى:
- إعادة بناء الاقتصاد على قاعدة الإنتاج لا الريع.
- تحرير السوق من الفساد والاحتكار، ولكن بضوابط شرعية.
- تعزيز الشفافية المالية، وتطهير النظام الضريبي من الظلم.
- إحياء نظام الوقف والزكاة كجزء من الاقتصاد العام.
- تمكين الفقهاء والخبراء من صياغة بدائل شرعية واقعية للنظم الربوية.
- تحريك الاجتهاد الفقهي في قضايا العملة، والمالية العامة، والسياسات النقدية، والاستثمار الأجنبي، والعقود المستحدثة.
أين الفقهاء من نوازل اليوم؟
لقد آن الأوان أن ينزل الفقهاء من أبراج الفتاوى التقليدية إلى ميدان التخطيط الحضاري، وأن يتقدّموا إلى الصفوف الأولى، ليس فقط بالفتوى في النوازل، بل بالمشاركة في تصميم النموذج البديل.
وهذا يستدعي:
- فقهًا جديدًا للموازنات العامة.
- اجتهادًا في اقتصاد ما بعد الحرب، وأخلاقيات إعادة الإعمار.
- رؤية شرعية للدور الاجتماعي للدولة، ولعلاقة المال بالسلطة.
بين أن نبني ذاتنا… أو يُعاد بناؤنا
التاريخ لا ينتظر. والدول ـ في لحظات ما بعد الأزمات ـ إما تُعاد صياغتها بأيدي أصحابها، أو تُعاد صياغتها على يد المستعمرين الجدد، من الداخل أو الخارج.
إما أن نتدارك اللحظة بخطة واعية، مؤسسية، راشدة، يقودها العلماء والخبراء والمخلصون، أو سنُركَن من جديد إلى مقاعد التبعية، ويُفرض علينا النموذج الغربي في الاقتصاد، والتعليم، والثقافة… لكن هذه المرة لا من باب الغزو، بل من باب “الإعمار”.
وفي الختام
الفرصة لا تتكرر كثيرًا. ورفع العقوبات ـ رغم كل التحفظات ـ لحظة ينبغي أن تُستثمر، لا أن تُهدر.
فهل نملك الجرأة أن نقول: نعم، نحن نحتاج إلى “خطة مارشال إسلامية“؟
لكنها خطة نكتبها بأنفسنا، على لوحٍ من قيمنا، وبقلمٍ من علمنا، لا بإملاء الآخرين.
فإما أن نبني ذاتنا، أو نُبنى من جديد على يد غيرنا.