Search

من أجل شرق أوسط أكثر استقرارا

يشهد الشرق الأوسط حالة من عدم الاستقرار المزمن، تغذيه عوامل متعددة، من بينها النزاعات الإقليمية، والانقسامات المذهبية، وضعف مؤسسات الدولة في عدد من البلدان. إلا أن أحد أبرز وأخطر هذه العوامل يتمثل في انتشار الجماعات ما دون الدولة، التي باتت أدوات طيّعة في يد قوى إقليمية تستخدمها لفرض النفوذ وتجاوز القانون الدولي. وتُعدّ إيران في طليعة الدول التي تبنّت هذا النمط من السياسات، إذ بنت مشروعها الإقليمي على دعم وتسليح وتمويل جماعات مسلّحة تعمل خارج سلطة الحكومات، لتكون وسيلة ضغط وابتزاز سياسي في وجه خصومها.

إيران، التي واجهت منذ عقود عقوبات اقتصادية وسياسية متصاعدة، لجأت إلى تكتيك واضح: بناء شبكة من الجماعات تمتد من العراق وسوريا إلى لبنان واليمن، وحتى الأراضي الفلسطينية. هذه الجماعات لا تلتزم بالقوانين المحلية أو الدولية، تستمد قوتها من دعم الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، وشرعيتها من قضايا محقة في بعض الأحيان. بعبارة أخرى قضية محقة ومحام فاشل أومرتهن.

لقد سبق أن استضافت إيران عناصر من تنظيم القاعدة على أراضيها، رغم الخلاف الأيديولوجي العميق، في محاولة لاستثمارهم كورقة تفاوض مع الغرب. كما مارست نفوذها المباشر على حزب العمال الكردستاني، حينما تدخّل قاسم سليماني عام 1999 لإقناع الحزب بعدم تسليم سلاحه، ليتم استثماره لاحقًا في سياق توازنات أمنية وسياسية تخدم طهران ووكلاءها.

هذا النمط من توظيف الجماعات خارج الدولة لم يقتصر على إيران فحسب، بل تبنّاه النظام الساقط أيضًا في لحظات حرجة من تاريخه في عهدي الأب والابن. ففي أحد اللقاءات مع الدكتور رياض حجاب، رئيس مجلس الوزراء السوري المنشق، تحدث عن قرار النظام السابق بتسليم مواقع عسكرية استراتيجية في الجزيرة السورية لحزب العمال الكردستاني، وهو ما برّره بشار الأسد بالقول: “هؤلاء حلفاؤنا، وقد استثمرنا فيهم كثيرًا.

وفي العراق، ضمنت إيران بقاء الميليشيات المسلحة، مثل الحشد الشعبي، كقوة قائمة إلى جانب الدولة، تتجاوز مؤسساتها وتضعف سلطتها، وكذلك لبنان سابقاً. أما في الساحة الفلسطينية، فقد دعمت إيران حركة حم…اس لفترة طويلة، ثم تخلّت عنها حين لم تعد تخدم أولوياتها السياسية وتركتها لمصيرها، ما يؤكد أن علاقتها بهذه الجماعات قائمة على المصلحة لا المبادئ.

هذه السياسة التي تستثمر فيها الولايات المتحدة لم تُنتج سوى مزيد من التفكك والدمار في المنطقة، وخلقت مناطق نفوذ خارجة عن سلطة الدول، الأمر الذي يُعيق أي محاولة جادة لتحقيق استقرار دائم في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا يزال المجتمع الدولي يتعامل مع إيران من خلال أدوات العقوبات دون أن يعالج الجذر الحقيقي للمشكلة وهي استخدام الجماعات ما دون الدولة كأداة نفوذ إيرانية على اختلاف أيديولوجياتها

إن الطريق إلى شرق أوسط مستقر يبدأ من إنهاء نفوذ هذه الجماعات. ويتطلب ذلك تحركًا عربيا حاسمًا يربط بين أي انفتاح أو تفاوض مع إيران، وبين تفكيك بنيتها غير الرسمية التي تعتمد على الميليشيات والوكلاء. حيث يجب أن تكون هناك معايير واضحة: لا استثمارات، ولا اتفاقيات، ولا تخفيف للعقوبات، دون التزام إيراني عملي بإخراج سلاح هذه الجماعات من المعادلة، وإعادة بناء العلاقة مع الدول على أساس السيادة واحترام القانون الدولي.

ختام القول في شرق أوسط بلا جماعات ما دون الدولة هو أكثر من حلم سياسي، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة واستقرار الشعوب. ولن يتحقق هذا الاستقرار إلا حين يتم التعامل مع السياسة الإيرانية لا كملف نووي فقط، بل كمشروع متكامل يعتمد على تقويض الدول المجاورة من الداخل.

وإن تحقق هذا الهدف، سيخفف من حدة القلق الأمني لدى الأنظمة العربية، ويوفر مناخًا أقل توترًا داخليًا، ما قد يفتح المجال أمام تحولات داخلية إيجابية تتمثل في إتاحة مساحة أوسع للحريات، وتعزيز المشاركة السياسية، ورفع سقف الثقة بين الدولة والمجتمع. فالأمن عندما يكون مستقرًا لا يُبنى على القمع والرقابة، بل على التوازن، والانفتاح، والثقة بالقدرة على إدارة التنوع تحت مظلة دولة قوية لا ينازعها سلاح آخر تمهيدًا لبناء نظام إقليمي يحكمه القانون، لا الولاء للمليشات العابرة للحدود.

محمد رجب سماق

كاتب سياسي وأكاديمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top