مصطفى محمود سليخ
في علم إدارة الأزمات، يُفرّق بوضوح بين “الاستجابة الطارئة” و”التخطيط الوقائي”. فبينما يُعنى الأول بإخماد الأزمة بعد اشتعالها، يركّز الثاني على بناء بنية تحتية تمنع الأزمة من الظهور أساسًا أو تقلّل أثرها. وحين تُهمل الأنظمة هذا الفرق، تقع في فخ ما يمكن تسميته بـ”منطق الإطفاء السياسي”، حيث تتحوّل الدولة من كيان استراتيجي يُخطط، إلى كيان انفعالي يُطفئ. والنتيجة: دولة دائمة الاستنفار، عاجزة عن صناعة المستقبل لأنها مستهلكة في مطاردة أزمات الحاضر.
قال تعالى: ﴿أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أم من يمشي سوِيًّا على صراطٍ مستقيم﴾ الملك: 22 تساؤل قرآني يرسم الفارق بين من يسير وفق منهج مستقيم، ومن يتعثر في كل خطوة لأنه لا يرى إلا ما تحت قدميه.
- ثقافة “الإخماد العاجل”: سياسة منزوعة البصيرة
الأنظمة التي تُدار بمنطق الإطفاء السياسي، لا تملك رؤية طويلة الأمد. فهي لا تتنبأ، ولا تبني سيناريوهات مستقبلية، بل تكتفي بردود الأفعال. وهذا يتجلى في عدة مظاهر:
- ترحيل الأزمات بدل حلها: مثلًا، عوض معالجة جذور الاحتجاجات الاجتماعية، يتم احتواؤها مؤقتًا عبر الحوافز النقدية أو القمع المحدود، دون تفكيك مسببات التهميش، من بطالة وهيمنة رأس المال الريعي وسوء توزيع الثروات.
- الاكتفاء بـ”الإصلاح اللحظي: بحيث تُسنّ قوانين متسرعة استجابة لفضيحة أو ضغط شعبي، دون إعداد مسبق، مما يؤدي إلى تشريعات مرتجلة وغير قابلة للتنفيذ، سرعان ما تُنسى أو تُلغى.
- الانشغال بالصورة لا بالمضمون فتُنفق الملايين على العلاقات العامة أو المؤتمرات الدولية، بينما تفشل الحكومات في تقديم خدمات أساسية كالتعليم والصحة والنقل العام.
هذا النمط من “الحكم الطارئ” لا يختلف كثيرًا عن رجل يركض حافيًا بين ألسنة اللهب، حاملاً دلواً صغيرًا من الماء: كثير الحركة، قليل الأثر.
2. أعراض منطق الإطفاء السياسي: دولة دائمًا على الحافة
أ. الإعلام كصمام ضغط
يتحول الإعلام الرسمي إلى “مضخة تهدئة”، تروّج للطمأنينة الوهمية وتُقصي الأصوات المحذّرة. فلا يُسمح للمجتمع بمعرفة عمق الأزمة، بل يتم تسويق أن كل شيء “تحت السيطرة”. وفي النهاية، حين تنفجر الأزمة، يفقد المواطن الثقة في الرواية الرسمية.
ب. الوزارات الطارئة
يتكرر مشهد تعيين وزراء في حكومات وظيفتهم الأولى “احتواء الشارع”، لا تنفيذ سياسات. وزراء بلا برنامج، يملؤون الفراغ السياسي مؤقتًا، ثم يُستبدلون عند أول اختبار حقيقي.
ج. الشرعية المرهونة بالاستجابة
تفقد السلطة شرعيتها القائمة على الرؤية، وتتحول إلى كيان رهين “رد الفعل”. فلا تُقاس قوتها بحجم الإنجاز، بل بقدرتها على تجنّب الانفجار الاجتماعي التالي. وهذا نمط هشّ سرعان ما ينهار أمام أزمة مركبة أو تهديد استثنائي.
لقد وصف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحالة العكسية حين قال:
“لو عثرت بغلة في العراق، لخشيت أن يسألني الله عنها: لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟“
هذا وعي استباقي بالمسؤولية السياسية، لا يُترك فيه شيء للصدفة أو رد الفعل، بل يُبنى من الأساس بما يضمن ألا تقع الأزمة.
3. لماذا يفشل هذا النمط من الحكم؟
أ. الإنهاك المؤسسي
مثلما أنهك منطق الإطفاء المعرفي العلماء والمفكرين، يُنهك منطق الإطفاء السياسي مؤسسات الدولة ذاتها. تُستنزف أجهزة الأمن والمالية والإعلام في الاستجابة الطارئة، بينما تغيب المشاريع التحولية والإصلاح الهيكلي طويل المدى.
ب. تآكل الثقة العامة
في بيئةٍ لا يُخطَّط فيها للمستقبل، يشعر المواطن أن الدولة لا تعرف أكثر منه، بل فقط “ترد الفعل” عند الضرورة. وبهذا تتآكل الثقة تدريجيًا، إلى أن تنعدم تمامًا عند أول خيبة أمل.
ج. الاعتماد على الرموز لا الأنظمة
بدل بناء مؤسسات صلبة، تعتمد السلطة على “الزعامات” و”الخطابات الكاريزمية” لحل كل مشكلة. لكنها لا تدرك أن الزعيم لا يستطيع أن يحلّ محل النظام، وأن البلاد التي يُطفئ فيها الرئيس كل حريق شخصيًا، لا تختلف كثيرًا عن شركة بلا إدارة.
4. منطق بديل: من الإطفاء إلى هندسة الدولة
الحل ليس في مضاعفة أجهزة الإطفاء، بل في إعادة تصميم البيت السياسي نفسه بحيث لا يشتعل أصلًا. وهنا تبرز ثلاث ركائز للانتقال من عقلية الطوارئ إلى نهج الحكم الرشيد:
أ. الرؤية المؤسسية طويلة المدى
تُبنى السياسات العامة على استراتيجيات تمتد لعقود، تشمل التعليم، والطاقة، والتحول الرقمي، لا على شعارات المرحلة أو استجابة لمطالب لحظية.
ب. توزيع السلطة والمساءلة
ينبغي أن تُوزَّع المسؤوليات بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتُفعل آليات الرقابة والمحاسبة، حتى لا تبقى السلطة متضخمة بلا مساءلة، فتفشل في التوقع وتكتفي برد الفعل.
ج. تمكين المجتمع المدني
كما أن الهندسة المعرفية تحتاج إلى مؤسسات إنتاج فكر، فإن الهندسة السياسية تحتاج إلى مجتمع حيّ، قادر على مراقبة السلطة، والتفاعل معها، وتقديم البدائل.
خاتمة: السيادة لا تبنى بردّات الفعل
الدولة التي تُدار بمنطق الطوارئ ستظل تركض خلف أزماتها دون أن تلحق بها. أما الدولة التي تتبنى منطق البناء الوقائي، فستُصبح قادرة على التنبؤ، والتحكم، والتوجيه.
الوحي لم يأتِ إلى النبي ﷺ ليعالج كل حادثة فردية في مجتمع مكة، بل وضع له مشروعًا يحرر الإنسان من الجاهلية ويمنحه أدوات البناء الحضاري. وكذلك، السياسة لا يمكن أن تكون سلسلة استجابات لأزمات عابرة، بل يجب أن تكون هندسة للزمن، وبناء لمستقبل يتجاوز لحظة الاحتراق.