Search

بين العزلة والطموح: مأزق إيران الجيوسياسي

من سوء حظ إيران، أو بالأحرى نظامها الحاكم، أنها تقع في “منقطع جيوسياسي” في عصرنا الحديث. فلا هي دولة وأمة كأوكرانيا، المتموضعة على تخوم روسيا وأوروبا، لتصبح نقطة صراع بين تكتلين تاريخيين وقوميين قويين، ولا هي القريبة جغرافياً وسياسياً من الصين كالهند، لتكون محور رهان بين قوتين عظميين. إيران اليوم، بنظامها الحالي، لا تجد حليفاً حقيقياً يراهن عليها، لا من جيرانها العرب، ولا من “أصدقائها الزائفين” الروس، ولا حتى من الصين كقوة صاعدة. بل إن النظام الإيراني، على وجه الخصوص، يفتقر إلى أي دعم حقيقي من أي طرف دولي.

كما لم يحالفها الحظ لتكون كتركيا، التي استطاعت أن تجمع بين هويتها التاريخية وموقعها الجيوسياسي لتصبح لاعباً إقليمياً مؤثراً. وبدلاً من ذلك، بقيت إيران، نسبياً، شبيهة بالدول العربية وأنظمتها، كمصر والعراق، أو حتى السعودية، مع اختلاف جوهري: فالسعودية أضحت ملحقاً إمبراطورياً ضمن النظام الغربي، بينما ظن النظام الإيراني أنه يستطيع الصعود كقوة إقليمية مستقلة، وسط عالم معقد ومتصارع. لكن الحقيقة أن إيران، بذاتها، لا تملك مقومات القوة الكافية لتحقيق هذا الطموح، وهو فوات تاريخي طويل ينطبق عليها كما ينطبق على غيرها من دول المنطقة.

يبدو أن النظام الإيراني يعيش وهماً بأنه يمكن أن يكون في مصاف روسيا أو الصين أو حتى الهند، طامحاً إلى أن يصبح دولة كبرى يصعب تحييدها عسكرياً أو سياسياً لكنه فشل في تحقيق ذلك، ليس فقط بسبب محدودية قدراته الذاتية، بل أيضاً بسبب عزلته الجيوسياسية. فإيران محاطة بجيران يرونها، في أحسن الأحوال، منافساً، وفي أسوئها، عدواً. هذا الواقع يشبه “لعنة تاريخية”، كما لو أن إيران لم تجد “كسرى” جديداً يعيد إليها أمجادها الإمبراطورية الغابرة.

وفي سياق التاريخ المعاصر، تحارب إيران اليوم في منقطع تاريخي حرج. فالإمبراطورية اليورو-أطلسية، رغم كل التنبؤات بضعفها، لا تزال في أوج قوتها. صحيح أن قوى مثل الصين تصعد، وأن روسيا تحاول استعادة مكانتها كقوة عالمية، وأن عالماً جديداً يتشكل تدريجياً بعيداً عن ميراث الاستعمار الأوروبي، لكن في هذه اللحظة التاريخية بالذات، حيث تفقد أوروبا وأمريكا هيمنتهما المطلقة على نظام عالمي أحادي القطب، يصبح تصفية القوى الإشكالية في المناطق الجيوسياسية الحساسة هدفاً بحد ذاته.

في هذا الإطار، لا يبدو إسقاط النظام الإيراني هدفاً تكتيكياً أو استراتيجياً مباشراً للصراعات الحالية في المنطقة. بل يبدو الهدف الأكثر ترجيحاً هو “إنهاء حقبة إمبراطورية الحرس الثوري”، أي ترويض النظام الإيراني وجعله أكثر امتثالاً للمصالح الإقليمية والدولية. هذا الترويض يتطلب، أولاً، جعل إيران تتخلى عن سياساتها العسكرية والأمنية التي تهدد إسرائيل واستقرار المنطقة. وثانياً، دفعه نحو الانفتاح الاقتصادي بالمعنى الليبرالي، وهو التحدي الأصعب. فإذا فشل النظام في تحقيق هذا الانفتاح، فقد يدخل في مرحلة تفكك طويلة، شبيهة بما شهدته الأنظمة العربية في العقود الأخيرة.

إن إيران، بنظامها الحالي، تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي. فإما أن تستطيع إعادة تعريف دورها الجيوسياسي بما يتماشى مع واقع المنطقة وتوازنات القوى العالمية، وإما أن تواصل مسارها الحالي، محاطة بالعزلة والتحديات، لتجد نفسها، عاجلاً أم آجلاً، في مواجهة مصير يشبه مصير الأنظمة التي سبقتها في الانهيار تحت وطأة طموحاتها غير الواقعية.

 بقلم :مرهف شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top