عادل الصالح
مع اقتراب تشكيل مجلس الشعب الجديد في سوريا، تعود إلى الواجهة أسئلة مؤجلة منذ سنوات طويلة حول جدوى هذه المؤسسة ودورها الحقيقي في حياة السوريين اليومية. هل سيظل المجلس مجرد قاعة شكلية للتصفيق وتمرير القرارات، أم أنه سيستعيد مكانته كمنبر للتشريع والرقابة وصوت يعكس تطلعات الناس؟ الشعب الذي أنهكته الحرب لم يعد يقبل بالشعارات، بل يريد مجلسًا يلمس وجعه ويضع قوانين تصنع فرقًا في تفاصيل حياته.
لكن أي حديث عن دور المجلس لا يمكن أن يبقى عامًا أو فضفاضًا. هناك ملفات محددة تتصدر انتظارات السوريين وتشكّل معيارًا حقيقيًا للحكم على جدية البرلمان الجديد، الحياة السياسية المقيّدة، البطالة التي تخنق الشباب، وملف الأمن والإرهاب الذي يثقل حاضر البلاد ومستقبلها. هذه القضايا ليست عناوين ثانوية، بل مفاتيح أساسية تحدد ما إذا كان المجلس الجديد سيبقى تكرارًا للماضي أم بداية لمسار مختلف.
الأحزاب… السياسة التي غابت
الحياة السياسية في سوريا لم تكن يومًا انعكاسًا لتعدد المجتمع، بل ظلّت حبيسة الحزب الواحد، فيما بقيت بقية الأحزاب مجرّد ديكور لا يملك وزنًا أو تأثيرًا حقيقيًا. السوريون يعرفون هذا جيدًا، ويعرفون أن السياسة في بلدهم كانت أقرب إلى مشهد صوري منها إلى واقع حيّ. لكن مع تشكيل مجلس جديد، يفتح باب النقاش من جديد حول مستقبل التعددية وقانون الأحزاب.
المطلوب ليس مجرد تعديلات شكلية، بل كسر هذه الحلقة التي جعلت السياسة حكرًا على نخبة ضيقة، وإعادة الاعتبار لفكرة المشاركة الشعبية. السوري اليوم يريد أن يرى حزبًا يعبر عن طموحه، وصوتًا يعكس قضيته، ومنبرًا يناقش مشاكله بجرأة لا بخوف. إذا لم يجرؤ المجلس الجديد على فتح هذا الملف بصدق، فإن الحياة السياسية ستبقى مجمدة، وسيبقى البرلمان مساحة مغلقة لا تعكس إلا صوتًا واحدًا. أما إذا تمكّن النواب من الدفع نحو قانون عصري يضمن حرية تأسيس الأحزاب ويمنح المجتمع خيارات حقيقية، فسيكون ذلك أول خطوة جادة في كسر جدار الجمود الذي امتد لعقود.
غير أن السياسة وحدها لا تكفي إذا بقيت معزولة عن هموم الناس اليومية. فالمواطن العادي قد يهتم بحرية التعبير وتعدد الأحزاب، لكنه في الوقت نفسه يسأل: ماذا سأأكل؟ أين سأعمل؟ وكيف سأؤمّن حياة كريمة لعائلتي؟ وهنا يطلّ الملف الاقتصادي بوصفه التحدي الأكثر إلحاحًا أمام المجلس الجديد.
البطالة… جرح يومي
ما من حديث في الشارع السوري يعلو على الحديث عن البطالة. آلاف الشباب بلا عمل، جيل كامل يقف أمام مستقبل مسدود، والاقتصاد غارق في أزماته. هذه ليست مشكلة رقمية، بل مأساة يومية يعيشها كل بيت. حين يخرج الشاب صباحًا دون فرصة عمل، وحين تعجز الأسرة عن توفير لقمة العيش، يصبح أي خطاب سياسي بلا قيمة.
المجلس الجديد إذا أراد أن يكون مختلفًا فعليه أن يتعامل مع الاقتصاد كأولوية قصوى، وأن يدفع باتجاه تشريعات حقيقية تعيد فتح سوق العمل، وتمنح الأمان القانوني للمستثمرين، وتضع حدًا لاحتكار السوق من قبل المتنفذين. مكافحة البطالة تعني أيضًا إعادة التفكير في سياسات التعليم والتدريب المهني، وتعني خلق بيئة اقتصادية تُعيد للمواطن ثقته بأن مستقبله ليس مرهونًا بالهجرة أو بالفساد. السوريون لا ينتظرون وعودًا، بل يريدون قوانين تخلق وظائف، تشجع المشاريع الصغيرة، وتضع خططًا جادة لإعادة الإعمار بعيدًا عن مصالح الشبكات الضيقة التي اغتنت من الحرب.
الإرهاب… بين الأمن والحرية
حين يعجز الشباب عن إيجاد عمل، وحين يختنق المواطن في واقع اقتصادي يفتقد الأمل، لا يكون التطرف بعيدًا عن الأفق. إن مايُسمى “الإرهاب” اليوم ليس مجرد تهديد عسكري، بل انعكاس للثغرات الاجتماعية والاقتصادية التي تركت الشعب وحيدًا أمام أزماته. على المجلس الجديد أن يفهم أن حماية الوطن تبدأ بمعالجة هذه الجذور قبل أن تتحول إلى مواجهة سطحية للظواهر المسلحة.
الإرهاب لا يُهزم بالسلاح وحده، بل يُهزم عندما يجد الشاب فرصة عمل، وعندما يشعر المواطن أن الدولة تحميه بالقانون لا بالخوف، وعندما يُتاح المجال للفكر والتعليم بدل أن يكون القمع الحاضر الوحيد. المجلس الجديد يمكن أن يلعب دورًا محوريًا إذا أعاد الاعتبار لمفهوم العدالة، وربط بين الأمن والحرية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، لا خيارين متناقضين. حماية الوطن لا تعني مصادرة حق الناس في التعبير، بل تعني بناء مجتمع آمن لأنه عادل، لا لأنه محكوم بالقبضة الحديدية.
مجلس على المحك
البرلمان الجديد في سوريا ليس تفصيلًا إداريًا ولا دورة شكلية تُضاف إلى ما سبق. إنه امتحان حقيقي للدولة نفسها، ولقدرتها على إقناع شعبها أن السياسة يمكن أن تكون مجالًا لتغيير واقعي، لا مجرد غطاء للقرارات الجاهزة. إذا استطاع النواب الجدد أن يواجهوا هذه الملفات الثلاثة – السياسة، الاقتصاد، الأمن – بشجاعة ومسؤولية، فقد ينجحون في إعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسساته. أما إذا اكتفوا بالشعارات وتكرار الماضي، فإن الخيبة ستكون مضاعفة، لأن الشعب هذه المرة لم يعد يملك ترف الصبر على وعود لا تتحقق.


