ماهر الرجب
المقدمة:
بعد مرور عامٍ على سقوط النظام، تبدو سوريا اليوم في مفترق طرق تاريخي يختبر قدرتها على الانتقال من لحظة الانهيار السياسي إلى مشروع بناء دولة حديثة تستجيب لتطلعات مجتمع أنهكته عقود من الاستبداد والصراع. فالسنة الأولى لم تكن مجرد مرحلة إدارية لملء الفراغ، بل شكلت مختبرًا سياسيًا واجتماعيًا لقياس طبيعة العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع، ومدى قدرة السلطة الناشئة على إنتاج شرعية قائمة على المشاركة لا على الإكراه. وفي الوقت ذاته، برزت أسئلة جوهرية حول مستوى الحوكمة داخل المؤسسات: هل تطورت آليات اتخاذ القرار؟ هل تم ضبط الأداء الإداري بما يعكس رؤية دولة مستقرة؟ كما أظهرت التوقعات الشعبية حجم الهوة بين المأمول والمتاح، إذ واجه السوريون مزيجًا من الإنجاز البطيء والتحولات المفاجئة. وتبقى التحديات المقبلة محكومة بمدى قدرة الدولة على تعزيز الرقابة، وتمكين المجتمع المدني، وتوسيع فضاءات المشاركة السياسية في سياق انتقال لم يكتمل بعد.
تبدّل علاقة الدولة بالمجتمع
شكّل العام الأول بعد سقوط النظام اختبارًا مركزيًا لطبيعة العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع، وهي علاقة كانت، خلال عقود طويلة، قائمة على أحادية السلطة واحتكار القرار. ومع انتقال البلاد إلى مرحلة ما بعد السلطوية، برزت الحاجة إلى إعادة تعريف هذه العلاقة على أسس تُقارب مفاهيم الشرعية السياسية الحديثة، بما في ذلك المشاركة، والمساءلة، والانفتاح في إدارة الشأن العام. فعلى الرغم من المساعي المبذولة لإشراك شرائح مختلفة من المجتمع في عمليات التشاور وصياغة السياسات، إلا أنّ مستوى المشاركة الفعلية ظل متفاوتًا بين قطاع وآخر، ما يعكس استمرار التحدي البنيوي في تحويل المشاركة من ممارسة رمزية إلى أداة مؤثرة في صناعة القرار
وفي المقابل، أظهر المجتمع درجة من الحضور السياسي تفوق ما كان ممكنًا في السابق، إذ ارتفعت مستويات النقاش العام، وتزايد انخراط الفئات الشبابية والمدنية في مراقبة الأداء الحكومي والمطالبة بفتح قنوات تواصل أكثر شفافية. ومع ذلك، يستمر الجدل حول مدى قدرة السلطة الجديدة على ترجمة هذا الانخراط إلى شرعية سياسية راسخة، خصوصًا في ظل قيود تتعلق بضعف البنية المؤسسية، وتفاوت مستوى التنظيم بين المناطق، وغياب أطر تشريعية متكاملة تنظم العلاقة بين الدولة والمواطن.
وبهذا المعنى، فإنّ العام الأول لم يحقق تحولًا جذريًا في طبيعة العلاقة بقدر ما مهّد لعملية انتقال تدريجية، لا تزال تحتاج إلى ترسيخ قواعد الحكم الرشيد، وضمان مشاركة فاعلة، وتطوير أدوات تمثيل سياسي حقيقية تُسهم في إنتاج شرعية متكاملة ومستدامة.
الحوكمة وإدارة المؤسسات
يُعدّ مستوى الحوكمة داخل المؤسسات العامة أحد المؤشرات الأكثر دلالة على قدرة الدولة السورية الجديدة على تجاوز إرث العقود السابقة، حيث اتسمت البنية المؤسسية تاريخيًا بضعف الاستقلالية وغياب آليات صنع القرار الرشيد. وخلال العام الأول بعد سقوط النظام، برزت جهود ملموسة لإعادة تشكيل المؤسسات وضبط أدائها، إلا أن هذه الجهود ما تزال في مرحلة التأسيس ولم تتبلور بعدُ في نموذج إداري مستقر. فقد شهدت عدة قطاعات محاولات لتفعيل أنظمة داخلية جديدة، وتبني آليات أكثر شفافية في إدارة الموارد، في حين بقيت قطاعات أخرى تعاني من فجوات إجرائية وتفاوت كبير في مستوى التنظيم.
وعلى مستوى آليات اتخاذ القرار، يمكن ملاحظة انتقال تدريجي من مركزية مشددة إلى نمط أكثر مرونة، يعتمد على تشاور نسبي مع الخبراء والجهات المحلية. غير أنّ هذا الانتقال ما يزال محدودًا، إذ تعيق غياب الأطر القانونية الكاملة واستمرارية الهياكل المؤقتة قدرة المؤسسات على ممارسة استقلالية وظيفية حقيقية. كما أن مستوى الانضباط الإداري يتفاوت بين المؤسسات وفقًا لعوامل متعددة، من بينها طبيعة الكادر البشري، والخبرة المتراكمة، ودرجة وضوح التعليمات الإدارية. وهذا التفاوت ينعكس مباشرة على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين وعلى ثقة المجتمع بقدرة السلطة الجديدة على إدارة الشأن العام بكفاءة.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن الحوكمة في سوريا بعد عام من التغيير ما تزال في طور التشكّل، بين رغبة معلنة في بناء مؤسسات مهنية وبين تحديات بنيوية تحول دون ذلك. إذ يتطلب التحول الكامل نحو إدارة فعّالة توسيع الإطار التشريعي الناظم، وتطوير منظومات الرقابة والمساءلة، وصولًا إلى ترسيخ نموذج مؤسسي قادر على دعم عملية الانتقال السياسي والاجتماعي على المدى الطويل.
التوقعات المتبادلة بين الدولة والمجتمع
شكّل هذا العام لحظة اختبار للتوقعات المتبادلة بين الدولة والمجتمع؛ إذ دخل السوريون هذه المرحلة محمّلين بإنتظارات واسعة، تتمثل في تحسين الخدمات الأساسية، استعادة الاستقرار، وإرساء منظومة حكم أكثر عدالة وشفافية. وقد جاءت هذه التوقعات انعكاسًا لحجم المعاناة التي عاشها المجتمع خلال عقود من السلطوية والصراع، ما جعل سقف الأمل مرتفعًا نسبيًا تجاه السلطة الجديدة. وفي المقابل، وجدت الحكومة نفسها أمام ضغط اجتماعي كبير، يقابله واقع مؤسساتي هش وموارد محدودة ومشهد سياسي لم يستقر بعد، الأمر الذي فرض فجوة بين الممكن والمطلوب.
من جانب آخر، شعر جزء من المجتمع بأن وتيرة الإنجاز أقل مما كان يأمل، خاصة فيما يتعلق بملف العدالة الانتقالية، الأمن المحلي، إعادة تشغيل المؤسسات الحيوية، وتفعيل القضاء. كما أثار البطء في تنفيذ بعض الإصلاحات شعورًا بالقلق حول قدرة السلطة الجديدة على تحويل وعودها إلى نتائج ملموسة. وفي المقابل، برزت لدى الدولة مخاوف مرتبطة بتوقعات شعبية غير واقعية في بعض الملفات، خصوصًا تلك التي تتطلب إعادة بناء مؤسسي طويل الأمد أو ترتبط بعوامل خارجية لا يمكن التحكم بها بسهولة.
على الرغم من هذه الفجوة، يمكن ملاحظة تطور تدريجي في فهم كل طرف لمحدودية الطرف الآخر؛ فالمجتمع بات أكثر إدراكًا لتعقيدات عملية الانتقال، بينما أصبحت الدولة أكثر وعيًا بضرورة إدارة توقعات المواطنين عبر خطاب أكثر شفافية وانفتاحًا. وبذلك، تكشف السنة الأولى أن العلاقة بين الطرفين ما تزال في طور إعادة التشكل، وأن بناء الثقة المتبادلة يتطلب مزيجًا من الوضوح في السياسات والاستجابة الواقعية لاحتياجات المواطنين ضمن الإمكانات المتاحة.
آفاق التطوير وتعزيز مسار التحول المؤسسي
يمثل العام الثاني من مرحلة ما بعد التغيير فرصة حاسمة للانتقال من إدارة عملية الانتقال إلى بناء أسس دولة مؤسسية حديثة، وهو انتقال لا يمكن أن يتحقق من دون تطوير منظومة متكاملة من الأدوات الرقابية، ودعم المجتمع المدني، وتوسيع المجال السياسي بشكل منظم. وفي هذا السياق، تبرز أهمية استكمال تشكيل المجلس التشريعي بوصفه خطوة جوهرية لبدء عملية تشريعية مستقرة قادرة على سد الفجوة القانونية التي رافقت العام الأول، والانتقال نحو وضع منظومة قانونية شاملة تعالج احتياجات الدولة في ميادين الحوكمة الإدارية، وتضمن وضوح الصلاحيات، وشفافية الإجراءات، والمسؤولية المؤسسية.
كما يتطلب ترسيخ الحياة السياسية الانطلاق نحو فتح المجال السياسي من خلال قانون أحزاب حديث ينظم التعددية ويؤسس لانخراط مدني وسياسي مسؤول، إلى جانب تحديث قانون الاستثمار بما يعزز بيئة اقتصادية مستقرة وجاذبة. ويعدّ إصدار قانون ناظم لعمل منظمات المجتمع المدني ضرورة لضمان استقلاليتها وفاعليتها وبوصفها عابرة للطوائف والإيديولوجيا، مع استحداث تشريع خاص بتجريم خطاب الكراهية لحماية المجال العام وضمان نقاش سياسي سليم يمنع العودة إلى الاستقطابات التي عطلت الحياة العامة سابقًا.
وتمثل هذه الحزمة التشريعية ركيزة أساسية لضمان انتقال سليم نحو دولة مواطنة قائمة على حكم القانون والمؤسسات، حيث يتم الانتقال من منطق الغلبة وسياسات الهيمنة إلى منطق الحق والعدالة في إدارة الشأن العام. كما يفترض أن تتعامل مؤسسات الدولة بقدر أعلى من الحياد تجاه المواطنين، بما يعزز الثقة المتبادلة ويؤسس لعقد اجتماعي جديد يقوم على المشاركة والمساءلة. وفي المحصلة، فإن نجاح المرحلة المقبلة مرهون بقدرة الدولة على بناء منظومة قانونية ومؤسسية مستدامة تُرسّخ قواعد الحكم الرشيد وتدعم مسار التحول السياسي والاجتماعي في سوريا الجديدة.
خاتمة
تُظهر المؤشرات العامة للعام الأول بعد التغيير أن سوريا تقف أمام مسار انتقالي لم يكتمل بعد، لكنه يفتح الباب أمام إمكانية بناء دولة حديثة تستند إلى الشرعية المؤسسية والمشاركة المجتمعية. فنجاح المرحلة المقبلة مرهون بقدرة الدولة على تطوير بيئة تشريعية متماسكة، وتعزيز الحوكمة، وتوسيع المجالين المدني والسياسي. وفي ظل هذه المعطيات، يبقى الرهان الحقيقي على ترسيخ دولة مواطنة محايدة وعادلة، قادرة على تجاوز إرث الماضي وفتح أفق مستدام لتنمية سياسية واجتماعية تعيد تشكيل علاقة الدولة بالمجتمع على أسس جديدة.


