Search

الحيطان لها أذنين: كيف تصوغ الأمثال مصير العقول

تعتبر الأمثال الشعبية من أكثر العناصر الثقافية حضوراً في حياة الشعوب وتأثيراً في سلوكهم فهي ليست أقوال مأثورة يتم تداولها في المجالس، وإنما منظومة فكرية تختصر رؤية المجتمع للعالم، وتوجّه الأفراد في تعاملهم مع الحياة والآخرين سيما وأنه تتناقلها الألسن بسهولة، فتترسخ في الذاكرة الجمعية وتتحول إلى مرجع ذهني وسلوكي يوجّه التفكير دون وعي، ومن الجدير بالذكر أن سهولة تداول هذه الأمثال عبر الألسن، تُسهم في ترسيخها داخل الذاكرة الجمعية، مما يجعلها مرجعاً ذهنياً وسلوكياً يوجّه التفكير والسلوك دون وعي مسبق. إذ يتلقّى الإنسان منذ طفولته هذه الأمثال بوصفها حِكما نهائية لا تقبل الجدل أو النقاش. فعلى سبيل المثال، عندما يسمع الطفل مقولة «العين لا تقاوم المخرز»، يتشكّل لديه تصور ضمني بأن التسليم لصاحب القوة أمر حتمي، وأن مقاومة الظلم أو المواجهة غير مجدية مهما بلغت حدّتها.

وفي هذا السياق، يتجلّى تأثير الأمثال الشعبية بوضوح في المواقف الاجتماعية والسياسية، كما حدث إبّان انطلاق الثورة السورية، حيث تباينت مواقف أفراد المجتمع بين مؤيد ومعارض. ويعزى هذا التباين، إلى حدّ كبير، إلى الذاكرة الجمعية المثقلة بالأحداث الدامية التي شهدتها البلاد في ثمانينات القرن الماضي، لا سيما في مدينتي حلب وحماة. ففي تلك المرحلة، انتشرت مقولة «العين لا تقاوم المخرز» بشكل واسع، وترسّخت في الوعي الجمعي، مما ساهم في تكريس مشاعر الخوف والانكفاء.

وعلاوة على ذلك، فإن عبارات مثل «الحيطان لها أذنين»، التي تُقال داخل البيوت، تُعيد إنتاج هذا الخوف وتُسهم في ضبط سلوك الأفراد، بحيث يتجنبون التعبير عن آرائهم بحرية، خشية المراقبة أو العقاب. وهكذا، تتحوّل الأمثال الشعبية إلى أدوات ضبط اجتماعي، تعيد إنتاج أنماط التفكير والسلوك، وتُكرّس ثقافة الخضوع والامتثال في سياقات متعددة ومن هذا المنطلق، يستمر تأثير الأمثال الشعبية في تشكيل الوعي الجمعي عبر الأجيال، إذ يتعلّم النشء الجديد من مقولات مثل «اللي مكتوب على الجبين تشوفه العين» أن الاستسلام للقدر أمر لا مفر منه، وأن مقاومة المصير ضربٌ من العبث. ومع تكرار تداول هذه العبارات في الحياة اليومية، تتحوّل تدريجيًا من مجرد أقوال إلى قناعات راسخة، ثم إلى أنماط سلوكية جماعية تنعكس بوضوح في المواقف الاجتماعية والعلاقات الإنسانية وبذلك، تعمل الأمثال الشعبية كآليات ثقافية خفية تُسهم في بناء ما يُعرف في علم الاجتماع بـ”العقل الجمعي”، أي ذلك النسق الفكري الذي يُوحّد أفراد المجتمع حول تصوّرات مشتركة، ويُوجّه سلوكهم ضمن حدود ثقافية محددة. وهذا العقل الجمعي، وإن بدا غير مرئي، إلا أنه يُمارس تأثيرًا عميقًا في تشكيل ردود الأفعال تجاه الأحداث الكبرى، كما رأينا في المواقف المتباينة من الثورة السورية، حيث لعبت الأمثال دورًا في ترسيخ الخوف أو تبرير الصمت، بناءً على ما اختزنته الذاكرة الجمعية من تجارب سابقة، وفي امتدادٍ لهذا التأثير الثقافي، تبدأ عملية ترسيخ الأمثال الشعبية داخل الأسرة، حيث تستمد هذه الأقوال قوتها من سلطة الكبار ومكانتهم التربوية فعندما يبرّر الأب تقصيره أو تخلّيه عن مسؤولية ما بمقولة مثل «الحي أبقى من الميت»، يتلقّى الأبناء رسالة ضمنية تفضل المصلحة الشخصية على قيم الوفاء والتضحية. ومع تكرار هذه المواقف في المحيط الاجتماعي، بين الجيران والأصدقاء، تتحوّل الأمثال إلى نمط تفكير جماعي يستخدم لتبرير الأفعال وتفسير القرارات، بغض النظر عن منطقها أو أخلاقيتها.

ومن منظور علم النفس الاجتماعي، تعيد الأمثال تشكيل أنماط التفكير الفردي من خلال ما يعرف بـ”الإطار المرجعي العقلي”، وهو ذلك النسق الذهني الذي يلجأ إليه الإنسان لتفسير المواقف المعقدة عبر عبارات مألوفة تمنحه شعوراً بالأمان واليقين فبدلًا من تحليل الموقف بعمق، يختصره الفرد بمثل شائع يبرر به قراره فعلى سبيل المثال، من يؤمن بمقولة «ابعد عن الشر وغنّيله» غالباً ما يتجنّب المواجهة، بينما من يقتنع بـ«ما ضاع حق وراءه مطالب» يميل إلى الجرأة والمطالبة بالحقوق.

وفي سياقٍ متصل، لا تقتصر خطورة الأمثال الشعبية على تشكيل الوعي الفردي فحسب، بل تمتد لتُعيد صياغة سلوك الجماعة بأكملها. فمقولة مثل «اللي ما له كبير يشتري له كبير» تُكرّس ثقافة التبعية وتُضعف روح المبادرة، إذ تشجع على الاتكاء على سلطة خارجية بدلاً من تنمية الاستقلالية الذاتية وبالمثل، تستخدم عبارة «اضرب الحديد وهو حامي» في بعض السياقات لتبرير التسرّع أو حتى العنف، مما يضفي شرعية ضمنية على ردود الأفعال غير المدروسة وعلى الرغم من بساطة هذه الأمثال، إلا أنها تعيد إنتاج منظومة قيم ومواقف تتعارض مع مبادئ التفكير النقدي والاستقلالية، التي تعد من ركائز المجتمعات الحديثة، إذ تسهم هذه العبارات في ترسيخ أنماط سلوكية تعيق التطوّر الفردي والجماعي، وتعزز الامتثال بدلاً من التحليل والمساءلة.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن التراث الشعبي يزخر بأمثال إيجابية تحمل في طياتها دعوات للعمل الجماعي والمثابرة، مثل «يد واحدة لا تصفق»، و «من جدّ وجد ومن زرع حصد»، و«على قدر أهل العزم تأتي العزائم». فهذه الأمثال، وإن كانت محفّزة، إلا أنها تتطلّب فهماً سياقياً دقيقاً، بعيداً عن التكرار الآلي أو المبالغة في التقديس، حتى لا تتحوّل إلى شعارات جوفاء تفقدها فعاليتها التربوية والاجتماعية.

وفي ضوء ما سبق، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة قراءة التراث الشعبي بعين نقدية واعية، لا بهدف رفضه أو نبذه، بل من أجل التمييز بين ما يعزّز القيم الإيجابية، مثل التعاون والمثابرة والاستقلالية، وبين ما يكرّس الجمود والتمييز والخضوع للقدر فالأمثال الشعبية، بوصفها أدوات ثقافية مؤثرة، تستدعي مراجعة منهجية تعيد تقييم مضامينها في ضوء التحولات الاجتماعية والسياسية المعاصرة.

وقد أثبتت التجربة السورية، على وجه الخصوص، أن الإنسان قادر على تجاوز القناعات الراسخة التي شكّلتها الأمثال، وأنه يستطيع إعادة تشكيل وعيه الجمعي في مواجهة التحديات. فقد تبيّن أن «العين تقاوم المخرز»، وأن «المكتوب على الجبين يمكن أن تصنعه اليدان»، وأن السير «ورأسك مرفوع لأنك سوري حر» أكثر نبلاً وكرامة من الاكتفاء بـ«الحيط الحيط وقول يا ربّ السترة». هذه التحولات في الخطاب الشعبي تشير إلى إمكانية تفكيك البُنى الثقافية التقليدية، وإعادة بناء منظومة قيم جديدة تواكب تطلعات الإنسان نحو الحرية والكرامة والعدالة.

في المحصلة، لا تعتبر الأمثال الشعبية عبارات عابرة تقال في سياق الحديث، وإنما هي انعكاس لطريقة تفكيرنا ورؤيتنا للعالم، وتعبير عن البنى الثقافية التي تشكّل الوعي الفردي والجمعي على حدّ سواء فالأمثال التي نكرّرها اليوم تسهم في صياغة قناعات الأجيال القادمة، وتحدد معالم إدراكهم لذواتهم وللواقع من حولهم، كما ترسم حدود إمكاناتهم في التغيير والمواجهة.

ومن هنا، فإن إصلاح التفكير الجمعي لا يبدأ من إعادة النظر في السلوك فقط، وإنما من مراجعة ما نردّده من أقوال تنسب إلى “حكمة الأجداد”، والتي قد تحمل في طياتها رسائل تكرس الخضوع أو تعيق النقد والمساءلة فغربلة هذا التراث اللغوي، وتمييز ما يعزّز القيم الإنسانية من بينه، يعتبر خطوة جوهرية نحو بناء وعي أكثر تحرّراً واستقلالية كما إن الوعي الجمعي لا يكتب على الجبين كما توحي بعض الأمثال، وإنما يعاد بناؤه يوما بعد يوم، من خلال ما نقوله، وما نؤمن به، وما نحوله إلى مواقف وسلوكيات. فالكلمة، وإن بدت بسيطة، تملك القدرة على تشكيل المصير، وتوجيه المجتمعات نحو الجمود أو نحو التغيير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top