في عالم تصنع فيه مكانة الدول من صورتها أكثر مما تصنع من قوتها، تصبح القدرة على التأثير الناعم شرطاً للشرعية الدولية وجذب الشراكات. وسوريا الجديدة تقف أمام اختبار استراتيجي، كيف تعيد تعريف نفسها للعالم بعد سنوات اختطفت فيها سرديتها وصورتها، وكيف تقنع العالم بأنها عادت.
لقد أصبحت صورة الدول في القرن الحادي والعشرين نتاجاً مركباً يجمع بين ما تملكه الدولة من موارد، وما تعكسه مؤسساتها من سلوك، وما ينتجه مجتمعها من سرديات، وما يشعر به مواطنوها من انتماء أو غضب أو حتى أمل. والعالم اليوم لا ينظر فقط إلى القدرات العسكرية أو المالية، بل إلى ما إذا كانت الدولة قادرة على إقناع الآخرين بأنها دولة تستحق الثقة. فالصورة الذهنية تحولت إلى أصل وطني، والقوة الناعمة أصبحت مؤشراً مركزياً للاستقرار السياسي والجاذبية الاستثمارية والشرعية الدولية. وفي لحظة انتقالية مثل اللحظة التي تعيشها سوريا بعد التحرير، يصبح السؤال الأهم: بأي صورة ستظهر سوريا للعالم، سوريا التي رسم العالم ملامحها خلال سنوات الحرب، أم سوريا التي تعيد اليوم صياغة ذاتها عبر سردية وطنية جديدة؟
على الرغم من أن سوريا تدخل اليوم مرحلة سياسية مختلفة، فإن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في إعادة الإعمار أو إعادة تشغيل المؤسسات، بل في إعادة بناء الصورة السورية الدولية وترميم الثقة التي تعرضت لضرر عميق. تشير أحدث تقارير Brand Finance لعام 2024 إلى ان الدول التي تصعد في مؤشر القوة الناعمة تحقق زيادة بمتوسط 3.1 نقاط في قدرتها على النفاذ الاقتصادي والتجاري خلال عام واحد، كما ترتفع فرص الاستثمار الأجنبي المباشر لديها بنسبة تصل إلى 12٪. وهذا وحده دليل على أن القوة الناعمة هي سياسة أمن قومي ذات أثر اقتصادي مباشر.
وما تمتلكه سوريا من عناصر غير مستثمرة يجعلها، إذا ما أعادت بناء صورتها، واحدة من الدول الأكثر قدرة على تحقيق قفزة في القوة الناعمة خلال فترة قصيرة. فوفق بيانات World Population Review، تسجل سوريا معدل تنوع إثني يبلغ 21.3٪، وتنـوع لغوي 18.17٪، وتنـوع ثقافي 43.10٪، ما يضعها ضمن الشريحة العليا من الدول الأكثر تنوعا في الشرق الأوسط. هذا التنوع، الذي كان ينظر إليه سابقاً كعامل هشاشة، يمكن تحويله إلى رصيد قوة، كما فعلت كندا وماليزيا وسنغافورة التي جعلت من التعددية مصدر جذب واستثمار.
وفي المقارنة الإقليمية، تظهر بيانات Global Soft Power Index 2024 ان تركيا قفزت 10 مراتب خلال عام واحد في عمود الإعلام والاتصالات، لتصل إلى المرتبة 18 عالمياً. هذه القفزة لم تكن بفعل قوة صلبة، بل نتيجة تكثيف الأدوات الثقافية والإعلامية، وتطوير الدبلوماسية العامة. وسوريا التي تقف اليوم أمام فراغ سردي دولي حول صورتها، قادرة على تحقيق قفزات مشابهة وربما أكبر إذا أحسنت بناء رواية متماسكة.
والقوة الناعمة ليست أرقاماً فقط. فالملف الذي يتناول المشاعر في السياسة يظهر أن الدول التي تفشل في إدارة انفعالاتها الجمعية تتحول مشاعرها مثل الفخر العدواني، المظلومية إلى عوامل تدمير للصورة العامة بدلاً من بنائها. تشير حنّة آرنت إلى أن المشاعر حين تخرج من نطاقها الخاص إلى المجال العام بلا تنظيم عقلاني تتحول إلى قوة معطلة للعمل السياسي. وفي أمثلة رواندا والبلقان وكمبوديا، نرى كيف يمكن للمشاعر غير المدارة أن تحول القوة الناعمة إلى عبء ثقيل، بينما يؤدي تحويل الألم إلى وعي والهزيمة إلى مسؤولية جماعية إلى زيادة الثقة الداخلية والخارجية.
ويتكامل هذا البعد النفسي مع ما تظهره البيانات الاقتصادية العالمية. فالدول التي تستثمر في الثقافة والفنون والتعليم ترتفع قدرتها على جذب السياحة بنسبة تتراوح بين 18٪ و40٪ خلال خمس سنوات، وترتفع صادراتها الثقافية بنسبة تصل إلى 25٪. وسوريا، التي كانت الدراما فيها قوة ناعمة عربية واسعة الانتشار، تستطيع إعادة إحياء هذا الدور إذا تمت إعادة بناء الصناعة الدرامية بإطار مؤسسي احتافي.
وإذا أردنا الاستفادة من التجارب الإقليمية والدولية، فإن تركيا قدمت مثالاً واضحاً على كيفية تحويل التحولات الديموغرافية إلى أدوات قوة ناعمة. فمنذ عام 2013 وحتى 2024، ارتفع عدد السياح العرب في تركيا من 4.5 ملايين عام 2011 إلى نحو 12.3 ملايين عام 2024، بفضل البيئة التجارية والثقافية التي ساهمت الجالية السورية في تشكيلها. وفي قطاع التعليم، تحتل الجالية العربية مرتبة متقدمة بين المجموعات الطلابية الأخرى بأكثر من 80 ألف طالب في الجامعات التركية، وهو ما خلق روابط أكاديمية وثقافية عززت مكانة تركيا في المنطقة.
وفي أوروبا وآسيا، جسدت تركيا نموذجاً ناجحاً في استثمار الجاليات. إذ يبلغ عدد الأتراك في أوروبا 5.5 ملايين شخص، بينهم ثلاثة ملايين في ألمانيا وحدها. وتظهر بيانات Eurostat لعام 2023 أن تحويلات المغتربين الأتراك تتجاوز 1.2 مليار يورو سنوياً، فيما يساهم وجودهم السياسي والاجتماعي في تعزيز صورة تركيا في القارة الأوروبية. أما في آسيا الوسطى، فقد أسهمت الجاليات التركية في رفع حجم التجارة الخارجية مع المنطقة إلى 11.2 مليار دولار عام 2022، وهو ما يشكل مثالاً مهماً لما يمكن أن تحققه سوريا إذا ما نظمت جالياتها الضخمة المنتشرة حول العالم.
وإذا انتقلنا إلى أحد أعمدة القوة الناعمة التركية، فإن الدراما والدبلجة تستحقان دراسة خاصة. فقد تحولت تركيا خلال عقدين فقط إلى ثاني أكبر مصدر للمسلسلات في العالم بعد الولايات المتحدة. وتشير بيانات وزارة الثقافة التركية إلى أن الدراما التركية تعرض اليوم في أكثر من 156 دولة، ويشاهدها نحو 700 مليون شخص، فيما تجاوزت إيراداتها ما يزيد عن مليار دولار سنوياً. وقد شكلت الدبلجة العربية، وخاصة باللهجة السورية، أداة مركزية في هذا الانتشار، إذ كان لمسلسلات مثل “حريم السلطان” و“العشق الممنوع” و“قيامة أرطغرل” أثر مباشر في التأثير الثقافي وفي جذب السياحة، إذ تؤكد هيئة السياحة التركية أن 30٪ من السياح الذين زاروا إسطنبول وكابادوكيا بين 2015 و2024 ذكروا أن متابعتهم للدراما التركية كانت سبباً رئيسياً أو ثانوياً في اختيارهم تركيا وجهة للسفر.
وعلى الجانب الأوروبي، تظهر تجارب ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا واليونان أهمية القوة الناعمة في صياغة الموقع الدولي. فألمانيا أصبحت مركزاً عالمياً للتعليم العالي والبحث العلمي باستقطابها أكثر من 350 ألف طالب دولي سنوياً، ما يعزز مكانتها العلمية والثقافية. أما إسبانيا، التي تستقبل أكثر من 85 مليون سائح سنوياً، فقد مزجت بين اللغة والثقافة والنموذج السياحي لتتحول إلى قوة ناعمة عالمية. وفي إيطاليا، تلعب الصناعات الإبداعية والموضة والتراث الفني دوراً محورياً في التأثير الثقافي، بينما استطاعت اليونان رفع عدد السياح من 14 مليوناً في 2010 إلى أكثر من 31 مليوناً في 2023 عبر استراتيجية قائمة على التاريخ والهوية المتوسطية.
سوريا بعد التحرير أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء موقعها وصورتها. وإذا تبنت نموذجاً يقوم على المؤسسات والمواطنة الشاملة وإدارة المشاعر الجمعية، وصياغة سردية وطنية تركز على الفعل لا على الشكوى، فإنها قادرة على أن ترتقي إلى مصاف الدول التي تقاس قوتها بقدرتها على الإقناع والتجاذب، لا بمن تحارب ومن تعادي. فالقوة الناعمة السورية مشروع دولة تعيد تعريف نفسها بعد الحرب بأنها دولة تعيد اكتشاف تاريخها، وصياغة هويتها، وبناء صورتها الدولية. وإذا نجحت في ذلك، يمكن لسوريا خلال عقد واحد أن تنتقل من دولة مهمشة إلى لاعب إقليمي يمتلك سرديته، وشبكاته، وصورته، وقوته الناعمة العابرة للحدود.
في ذلك، يمكن لسوريا خلال عقد واحد أن تنتقل من دولة مهمشة إلى لاعب إقليمي يمتلك سرديته، وشبكاته، وصورته، وقوته الناعمة العابرة للحدود.


