Search

أولويات المرحلة بعد عام من النصر

محمد طه محمد

يكتسب مرور عام كامل على انتصار الثورة السورية دلالات تتجاوز مجرد الاحتفاء بذكرى الانتصار او استعراض للنصر.

هذا التاريخ 8/12 يمثل بالنسبة لي ولكل السوريين حدا فاصلا وجوهريا بين مرحلتين مختلفتين كليا في الادوات والاهداف.
مرحلة الأسد البائد التي هُدم آخرها نظاما استبداديا عتيا بفضل التوفيق الإلهي اولا ثم بدماء شهداءنا ونزف جرحانا ثم بسواعد أبطال الثورة و شبابها وتخطيط القادة الاستراتيجي المحكم على مدار سنوات (عشناه وشاهدناه وعايشنا نتائجه في إدلب و عموم المناطق المحررة سابقا).
ومرحلة البناء التي تعد الاختبار الحقيقي والأصعب للشعب السوري حكومة وشعبا والتي هدفها قيادة البلاد نحو الاستقرار والتنمية في السنوات المقبلة.

ان القراءة الهادئة والعميقة للمشهد السوري اليوم تشير بوضوح الى أن المعركة لم تنته بهروب وإسقاط بشار الأسد وزمرته.
بل تغيرت أدواتها جذريا من البندقية والمدفع الى الادارة والتخطيط والتوعية.
فالواقع اليوم يفرض أولويات لا تحتمل التاجيل.
وتحدد مدى جدية السلطة الجديدة في القطيعة التامة مع ممارسات الحقبة الماضية وليس فقط مع شخوصها.

أولى هذه الأولويات والتي تشكل المعيار الأخلاقي والشرعي لأي سلطة ناشئة هي ملف المخيمات والمهجرين القاطنين في شمال غرب سوريا والذين ما زال يبلغ عدد العائدين منهم بعد التحرير لا يتجاوز الثلث حسب آخر الإحصائيات عدا عن معاناة قاطني المخيمات بسبب تخفيض العديد من المنظمات وعلى رأسهم الأمم المتحدة و الاتحاد الأوربي دعمهم لها ماديا لمستويات لا تكفي ولا تصل لمستوى الدعم الحقيقي.
فلا يمكن الحديث عن استقرار سياسي او اجتماعي ولا عن نصر حقيقي بينما لا تزال شريحة واسعة من السوريين تعيش حالة اللجوء داخل وطنها الذي حررته بأيدي أبنائها وشبابها.
ان استمرار حالة المخيمات بهذا الشكل بعد عام كامل من التغيير يرسل اشارات سلبية ومقلقة حول ترتيب الاولويات لدى الحكومة والسلطة الجديدة.

كما أن انهاء هذه الماساة وعودة الاهالي الى قراهم ومدنهم ليس مجرد إجراء خدماتي او لوجستي بل هو حجر الزاوية في استعادة الكرامة الانسانية التي كانت السبب الأول والمحرك الاساسي للثورة السورية المجيدة عام 2011.
و بقاء هذه المعاناة يعني استمرار النزيف في الذاكرة الجمعية السورية للثوار ككل.
لذا فان التحرك الفوري بخطط اسكانية وعمرانية طارئة وحشد الجهود الدولية والمحلية لاغلاق هذا الملف المستمر منذ 2011 هو الشرط الأول للعبور نحو الدولة.

و على التوازي مع البناء المادي تبرز معضلة الارث القانوني كاحد أعقد التحديات.
فالدول لا تدار بالنوايا الحسنة وحدها.
والبنية التحتية المدمرة التي ورثتها سوريا ليست مجرد طرقات ومحطات كهرباء ومشافي تحتاج لترميم فحسب.
بل هي ايضا بنية تشريعية ملغومة منذ 1970 وعهد حافظ الأسد هي عبارة عن عدد من القوانين والمراسيم التي فُصلت على مدار ستة عقود لخدمة القبضة الامنية ولشرعنة نهب الثروات و التي ما زالت سارية المفعول في كثير من مفاصل الدولة خصوصا في وزارات العدل و الإدارة المحلية و المواصلات و النقل بحكم العادة أو النسيان أو بسبب ثقل المهام وتعددها على كاهل الدولة الجديدة.

عملية التنظيف القانوني وإعادة هيكلة المؤسسات لتخدم المواطن بدلا من إخضاعه تعد ضرورة ملحة لمنع إعادة انتاج منظومة الفساد بغطاء ثوري جديد.
يتطلب هذا الامر تشكيل لجان قانونية متخصصة تمتلك الجرأة لمراجعة كل النصوص التي تكبل الحريات او تعيق التنمية واستبدالها بعقد اجتماعي وقانوني متمثلا في مجلس الشعب الجديد الذي تم اتتخابه هذا العام ليقوم بدوره الحقيقي و يضمن الشفافية ويحمي الحريات و الملكيات الخاصة والعامة.

و من المهم هنا أنه في سياق ملء الفراغ الهائل الذي خلفته سنوات الحرب وانهيار مؤسسات الدولة القديمة أنه لا تستطيع الحكومات المركزية مهما بلغت قوتها وحكمتها ان تقوم بالدور كاملا بمفردها.
هنا تظهر الحاجة الماسة لإطلاق يد المجتمع المدني.
ان الجمعيات الاهلية والنقابات المستقلة والروابط الفكرية والمبادرات المجتمعية وخصوصا تلك التي كانت نشطة في ريف حلب الشمالي و ادلب والتي اكتسب خبرة تنافسية في مجال الصراع المدني والتدافع نحو افراز نخبة حقيقية هي الرديف الطبيعي والشريك الفعلي للدولة والقادر على الوصول الى التفاصيل الدقيقة في حياة الناس وتلمس احتياجاتهم اليومية.
إن تمكين هذا القطاع ومنحه مساحة الحركة بحرية بعيدا عن التضييق او الوصاية هو دليل عافية ودليل ثقة بالنفس من قبل الإدارة الجديدة.
فالمجتمع المدني هو جهاز المناعة الذي يحمي المجتمع من الترهل ويساعد في سد الثغرات الخدمية ويراقب الاداء العام بما يضمن التصويب المستمر للمسار الحكومي.

أما التحدي الأخطر والاعمق والذي قد يغفل عنه الكثيرون في غمرة الانشغال بالهموم المعيشية فيكمن في العقلية.
لقد رحل الطاغية كشخص.
لكن ثقافة الاستبداد والأنا التي زرعها لعقود قد تظل كامنة في النفوس والممارسات اليومية و التي نشهدها يوميا من خلال تعاملاتنا.
الخشية الحقيقية هي من استنساخ التجربة المريرة التي عاشها السوريين بوجوه اخرى او تحت مسميات وذرائع مختلفة.
الاستبداد ليس مجرد حاكم ظالم بل هو منظومة سلوك تبدأ من أصغر موظف وتصل الى أعلى الهرم.
هذا الخطر الوجودي لا يواجه بالسلاح بل يواجه بنشر الوعي وتكريس مبدأ المساءلة الصارمة وربما تطوير الهيئة المركزية للرقابة و التفتيش هي خطوة من الحكومة نحو هذا المسار.
حيث يجب ترسيخ قناعة راسخة لدى الجميع بان الحاكم ايا كان هو موظف عند الشعب مؤتمن على مصالحه.

ان الشرعية تُكتسب بالإنجاز والعدل واحترام القانون.
لا بالخطابات الحماسية او التاريخ النضالي السابق.
و إن حماية النصر تتطلب بناء مواطن واع بحقوقه وواجباته قادر على المساءلة والنقد البناء دون خوف من مخابرات او بيت خالته.

ختاما:
المرحلة الحالية تتطلب يقظة فكرية ووطنية تمنع الانزلاق نحو ديكتاتوريات ناشئة.
وتؤسس لعقد اجتماعي جديد واعي يقوم على المواطنة المتساوية وسيادة القانون.

سوريا اليوم امام استحقاق تاريخي لإثبات ان البديل الذي طمح إليه السوريون ودفعوا ثمنه دما هو دولة مؤسسات حقيقية تحترم الانسان وتصون حريته وكرامته.
هذا هو الانتصار الحقيقي الذي يجب ان نسعى جميعا لتثبيته وحمايته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top