Search

الثورة السورية وهاجس الثورة المضادة

إن الثورة المضادة حالة طبيعية تاريخية متجددة تترافق مع قيام الثورات ، وقد تم تعريفها من قبل علماء السياسة منذ أيام الثورة الفرنسية بأنها :  حركة سياسية أو اجتماعية تهدف إلى معارضة أو إبطال تأثيرات ثورة سابقة، وذلك بهدف استعادة النظام القديم، أو تقديم بديل يعكس القيم التقليدية أو الوضع السابق. تحدث الثورة المضادة عادة كرد فعل على التغيرات الجذرية التي تحدثها الثورة، سواء كانت تلك التغيرات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، أو ثقافية.

وقد شهدت منطقتنا العربية بعد موجة الربيع العربي نماذج عديدة للثورات المضادة _كما حصل في مصر وتونس_  والتي عكست قدرة النظام السابق أو القوى التقليدية على العودة للسيطرة رغم الحراك الشعبي الواسع الذي طالب بالتغيير. وقد كان انتصار هذه الثورات المضادة  نتيجة مزيج من العوامل الداخلية والخارجي،  ولعل أهم هذه العوامل هي بقاء الدولة العميقة الوفية للنظام السابق بنخبها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية ، وسعيها لإعاد أنتاج النظام السابق وتلقيها الدعم الدولي من جهات وقوى اقليمية ودولية، تجد مصالحها في الحفاظ على النظام السابق أو أعادة إنتاجه بصورة جديدة بعد إخضاعه لبعض عمليات التجميل على الشكل مع الحفاظ على جوهره ومضمونه وهذا ما حصل بالضبط مع الثورة المصرية والتونسية والجزائرية ايضا.

لقد استطاعت القوى الثورية في سوريا متمثلة  “بإدارة العمليات العسكرية” وعلى رأسها هيئة تحرير الشام اسقاط النظام السوري في تاريخ 8/12/2024 بعد كفاح استمر لاكثر من ثلاثة عشرعاما .ومع إعلان سقوط النظام السوري وبدأ عهد الدولة السورية الجديدة  حتى بدأ  الكثير من السوريين يعبرون عن خشيتهم من حدوث ثورة مضادة   تسلبهم فرحتهم بالتحرر من النظام الاستبدادي وتخطف منهم ثورتهم التي بذلوا في سبيلها الكثير من التضحيات منذ انطلاقها في منتصف شهر اذار 2011.

إن نجاح إي أمر مقترن بتوافر عناصر نجاحه.  وهنا يأتي السؤال  هل عناصر الثورة المضادة متوافرة في النموذج السوري؟

ربما كان الحديث عن ثورة مضادة في سوريا  ممكنا  قبل 8 ديسمبر ، وذلك من خلال تطبيق قرار مجلس الأمن  (2254) والذي تم أقراره بالاجماع عام 2015 الهادف إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية مشتركة بين النظام السوري والمعارضة (المعتدلة) فقد كان هذا القرار يشكل فرصة كبيرة للنظام السوري السابق من أجل إعادة تلميع صورته وتقديم نفسه كمحارب للإرهاب وحامي الأقليات ومنفتح على الحوار مع المعارضة السورية (المعتدلة ).  لكن تعنته ورفضه الجلوس على طاولة المفاوضات مدعوما بتحالفاته الإقليمية والدولية  سلب منه هذه الفرصة.

ومع اشراق شمس 8 ديسمبر فلا يمكن الحديث عن ثورة مضادة في سوريا لعدة اسباب وهي على الشكل التالي:

  • إن عملية اسقاط النظام السوري لم تقتصر على هروب رأس النظام بشار مع أسرته ومجموعة من ضباطه  الى روسيا ، بل تبعها  حل  كافة مؤسساته العسكرية و الأمنية التي كانت تشكل عموده الفقري، فلم يعد هناك وجود فعلي  للجيش النظامي أو قوات رديفة  كانت تدافع عن نظام  بشار ماعدا بعض الفلول و مجموعات الشبيحة  التي تورات واختبات في بعض النواحي، ومازالت تشتبك مع قوات إدارة العمليات ، ليس  من اجل الدفاع عن  النظام السابق و إنما من دفعا للمحاسبة التي ستخضع لها امام القضاء.
  • إن الجيش السوري الجديد قوامه ومادته الفصائل الثورية والمنشقين عن النظام السوري السابق فهو جيش ثوري خالص لا يخالطه رواسب من النظام السابق وخاصة على صعيد القيادات رفيعة المستوى.
  • إنّ النخبة الاقتصادية التي شكّلتْ شريانَ الحياة للنظام السّابق ، وعملَتْ على تمويله ودعمه ، سقطتْ أيضاً مع سقوط النّظام ، و توارى الكثير من رجالاتها و رموزها عن الأنظار خوفاً من المحاسبة على فسادها و انحيازها لنظامٍ – ظهر للعالم حجمُ الجرائم و الانتهاكات التي نفّذها بحقّ أبناء الشعب السّوري – لم يعد أمام من بقي منه خيار سوى أنْ ينحازَ إلى جانب الإدارة الجديدة في سورية ، ويدورُ في فلكها خشيةً على مصالحه الاقتصاديّة و مكانته الاجتماعيّة والسّياسيّة.
  • إن الحشود الجماهيرية الضخمة التي تجمعت في ساحات سوريا وميادينها للاحتفال بسقو ط النظام تؤكد بما يقطع الشك بأن الإدارة الجديدة تمتلك قاعدة شعبية ضخمة تجعل فرص ظهور ثورة مضادة أمر مستحيل.
  • إن الثورة المضادة أكثر ما تحتاجه الدعم الإقليمي والدولي، لكن ومع سقوط النظام السوري ودولته العميقة المتمثلة بالنخب العسكرية والامنية والاقتصادية،  كما اوضحنا سابقا نرى ان هناك قبول دولي واقليمي  للإدارة الجديدة. تمثلت في زيارات لوفود دولية عربية وأوربية للادارة الجديدة  مع بعض التحفظات المرهونة بإداءها المستقبلي على أرض الواقع  ناهيك عن الدعم المباشر والصريح لبعض القوى الاقليمية ذات الثقل مثل تركيا و السعودية للإدارة الجديدة في سوريا.

عليه فإن الثورات المضادة لا تحدث من فراغ بل تعتمد على مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية والتي تُمكّن القوى المناهضة للتغيير من القضاء على الحركات الثورية واستعادة السيطرة على الأوضاع السياسية والاجتماعية وإعادتها الى ما كانت عليه وهو ما لا يتوفر في الحالة السورية.

لكن هذا لا يعني أن الثورة السورية وصلت إلى بر الأمان وأنها لن تتعرض لأي هزات ارتدادية قد تتسبب في تصدعها  فهناك بعض القوى الاقليمية  وفي مقدمتها يران  لن يعجبها التغيير  الذي حصل في سوريا حيث  أضر بمصالحها وأخرجها من دائرة اللاعبين على الساحة السورية ، مما قد يدفعها للعبث بأمن سوريا ومحاولة إيجاد موطئ قدم جديد لها في سوريا بكافة الوسائل وان كانت على حساب أمن الشعب السوري واستقراره بالاضافة لخشية بعض دول المحيط العربي ومنها مصر من فكرة تصدير الثورة السورية لها خاصة وأن الادارة الجديدة ذات خلفية اسلامية فراح إعلامها يشن هجمة شرسة على الانتصار الذي حققته الثورة السورية في محاولة لتشويه صورة الإدارة الجديدة والصاق صفة العمالة و الارهاب بها وقد حاول  أحمد الشرع  تطمين هذه الأنظمة حيث قال : بأن الثورة السورية ليست سلعة ليتم تصديرها وإنما هي روح والهام

أما اسرائيل التي وجدت في انتصار الثورة السورية تهديدا لأمنها القومي فسارعت لاجتياز منطقة منزوعة السلاح تم انشاؤها بعد حرب (1973) وسيطرت على جبل الشيخ الاستراتيجي المطل على دمشق وواصلت تمددها في عدة قرى في القنيطرة و ريف درعا كما نفذت مئات الضربات الجوية على مخزونات الاسلحة الاستراتيجية السورية  على الرغم من تصريحات أحمد الشرع بأن اسرائيل تستعمل حجج واهية لتبرير هجماتها وأن سوريا الجديدة ليست معنية بالدخول في صراعات جديدة وأنها ستركز على إعادة البناء بعد نهاية عهد بشار الأسد

وعلى الصعيد الداخلي فهناك  العديد من الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة بل حتى منها من شارك في عملية ردع العنوان التي انتهت باسقاط النظام النظام لم تعلن حتى الان عن استعدادها لحل نفسها والاندماج في وزارة الدفاع التي شكلتها القيادة الجديدة  بالاضافة لقوات سوريا الديمقراطية المتواجدة في شمال شرق سوريا والتي قد تشكل تهديدا حقيقيا لوحدة سوريا وهناك ايضا فلول وبقايا النظام السابق ممن لم يقوموا بتسليم سلاحهم حتى الان  مما يشكل عائقا في تحقيق استقرار مستدام على كامل اراضي سوريا ناهيك عن المشاكل الاقتصادية والخدمية الناجمة عن شبه انعدام للبنية التحتية والتي تشكل تحد كبير للادارة الجديدة في عملية اعادة الاعمار والنهوض بسوريا من جديد

هذه المؤشرات الداخلية والخارجية كان يمكن لها  ان تكون بيئة خصبة لثورة مضادة لكن في الحالة السورية وبعد ان نجحت الثورة في اسقاط  نظام  الاسد بكافة  اركانه السياسية والاقتصادية والعسكرية لا يمكن ان تكون اكثر من تحديات صعبة وشائكة  تواجه الادارة الجديدة قد تفضي في النهاية ربما الى انقلاب داخلي او حركة تصحيحية  داخل ادارة العمليات مما سينتقل بسورية الى دوامة جديدة من الصراع وعدم الاستقرار اذا لم تتعامل معها  الإدارة الجديدة لسوريا بحذر ونضج على الصعيد الأمني والسياسي والدبلوماسي.

محمود طقش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top