نحو دولة المؤسسات والقانون... رؤى اقتصادية واجتماعية لمستقبل سوريا

نحو دولة المؤسسات والقانون…رؤى اقتصادية واجتماعية لمستقبل سوريا

تمر سوريا اليوم بمنعطف حاسم في تاريخها المعاصر، إذ تواجه تحديات هائلة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية جراء الصراع الدائر منذ أكثر من عقد من الزمن. فعلى الصعيد الاقتصادي، ترزح سوريا تحت وطأة أزمات خانقة متمثلة بانهيار سعر صرف العملة الوطنية وتفشي البطالة والفقر، فضلاً عن تداعي البنى التحتية.

وفي ظل هذه الظروف، تُطرح الكثير من التساؤلات حول كيفية بناء مستقبل سوريا وترسيخ مبادئ الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون. 

وللإجابة على هذه التساؤلات، قامت أ. ميسون محمد بإجراء مقابلة صحفية مع أحد كبار الاقتصاديين والمفكرين السوريين، د. أسامة قاضي، ووجهت له مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بسبل تعزيز المرتكزات المدنية في سوريا، وتطوير آليات الرقابة والمساءلة، ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى كيفية استثمار التحديات الاقتصادية لتحقيق أهداف التغيير الديمقراطي.

السبيل نحو الدولة المدنية في مستقبل سوريا

دكتور برأيك، ما هي السبل الكفيلة لتعزيز المرتكزات المدنية في سوريا، من اقتصاد ومجتمع وقوانين، بما يؤدي إلى ترسيخ المسار الديمقراطي ويحد من هيمنة المرتكزات العسكرية والأمنية؟

إن السبب الرئيسي وراء الثورة السورية والحراك المدني في سوريا هو غياب الدولة المدنية الحقيقية، التي افتقدها السوريين منذ نشأة سوريا ككيان سياسي منذ عشرة عقود وحتى الآن، فما زالت سوريا بالنسبة لنا مجرد تجمع بشري يحكمه نظام سياسي يوظف الناس لتحقيق مصالحه الحزبية والطائفية والعائلية، ولم تتشكل في سوريا دولة حقيقية ذات مؤسسات مدنية سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية تربط بين الحاكم والشعب بعقد اجتماعي صحيح، منذ نشأة الكيان السوري إلى الآن مع استثناء فترة 1078 يوماً ما بين الجلاء وانقلاب حسني الزعيم.

إن ما يتطلع إليه السوريون هو تأسيس دولة حديثة تقوم على مبدأ المواطنة، وتمنح الشعب حق اختيار سلطته ومراقبتها ومحاسبتها، وهذا يتطلب أولاً تعزيز مفهوم المواطنة بحيث يتمتع المواطن بغض النظر عن إثنيته أو طائفته أو دينه أو مكانته المجتمعية بكامل حقوقه، لكن لم تتوفر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي تمكّن الشعب السوري المظلوم من التعبير عن إرادته بحرية في اختيار ممثليه، فقد حال الاستبداد دون نشر الوعي والتعليم الحقيقي بين المواطنين، وأبقاهم في مستوى معيشي ضئيل، كما لم يستغل النظام ثروات سوريا لينهض بها اقتصاديًا، أو يرفع المستوى المعيشي للمواطنين، لأن نظام الاستبداد يدرك أهمية الجهل والفقر في نشر الأمية السياسية، ولا يمكن للمسار الديمقراطي أن يسير بانسيابية مع بقاء المواطنين في عوز مادي يستغله السياسي الطامح للسلطة.

كما أن من أسس هذه الدولة المنشودة وجود دستور حقيقي يلتزم به الجميع، ينبغي تفعيل مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، إضافة للسلطة الرابعة وهي حماية وتشجيع الإعلام الحُر ضمن إطار القانون لتعزيز مدنية الدولة وديمقراطيتها، والتأكيد على سلطة قضائية مستقلة، وتحييد المؤسسة العسكرية عن الحكم، التي لم تغادر القصر الجمهوري منذ الاستقلال. 

ينبغي أن تكون هناك سياسة اقتصادية ليبرالية توفر الرعاية للفقراء وفرص العمل والتعليم والصحة، تلعب فيه الدولة دور أبوي في رعاية الطبقة الأقل حظاً وتضع كل الجهود من أجل تمتين وتوسيع الطبقة الوسطى، وعلى دولة سوريا المستقبلية أن يكون لديها مشروع نهضوي شامل ينقل سوريا إلى مصاف الدول المتقدمة، وإلغاء التجنيد الإجباري والاكتفاء بجيش من المتطوعين لحماية الحدود.

ولا بد من المضي في المسار الديمقراطي بعيدًا عن التطرف وهيمنة الأحزاب الإيديولوجية أو المؤسسة العسكرية، فهذا المسار هو ما ضحى من أجله السوريّون طيلة سنوات الثورة. 

نحو شفافية أكبر في توزيع المساعدات الدولية

كيف يمكن تطوير آليات الرقابة والمساءلة على المستوى المحلي والدولي، لضمان وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية للمحتاجين في سوريا دون اختلاس أو تحويل مسارها من قبل النظام وحلفائه؟

وفقا لخبراء من منظمة “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”(OPEN) من كندا و”برنامج تطوير القانون السوري”(SLDP) من بريطانيا، هنالك أكثر من مائة شريك للأمم المتحدة في سوريا، وما بين عامي 2019 و2020 ذهب نحو 140 مليون دولار من برامج مشتريات الأمم المتحدة إلى الموردين ومقدمي الخدمات المصنفين على أنهم موالون للنظام.

واقع الفساد في سوريا ليس جديداً حيث تموضعت عام 2011 قبل الثورة في المرتبة 129 من أصل 183، وتدهورت حالة الفساد إلى أن وصل تصنيف سوريا عام 2022 للمرتبة 178 من أصل 180، بمعنى أن سوريا باتت ثالث أفسد دولة على وجه كوكب الأرض، فكيف سيكون هناك ضمانات لتوزيع عادل للإغاثات؟ وكيف تعطي الأمم المتحدة أكثر من 90 بالمائة من الإغاثات لنظام بهذه المؤشرات؟ ثم يستغرب أن يكون هنالك 95 بالمائة من السوريين تحت خط الفقر!

وهو ما أكدته صحيفة تاغ شبيغل الألمانية التي كشفت عن الطرق والآليات التي استطاع من خلالها قادة ميليشيات ورجال أعمال تابعون للنظام السوري -من بينهم فادي صقر وسامر فوز ونزار الأسعد- الخاضعون للعقوبات، أن يستفيدوا من المساعدات الأممية.

أرى أنه من الضروري أن تتحلى منظمة الأمم المتحدة بمزيد من الشفافية، وأن تنشر تقارير دورية عن المساعدات الإنسانية التي وصلت فعليًا إلى الشعب السوري داخل سوريا وخارجها.

فمعظم مساعدات الأمم المتحدة تذهب الآن إلى نظام الأسد، دون تقارير واضحة عمّن وصلته هذه المساعدات، كذلك ينبغي محاسبة الدول المضيفة للاجئين مثل لبنان، حول كيفية إنفاق الأموال المخصّصة لهم، ومدى انعكاس ذلك على أوضاع اللاجئين أنفسهم.

وأرفض مصطلح “التعافي المبكّر” الذي تستخدمه الأمم المتحدة، فهو مجرد تلبيس على الواقع السوري، إذ ما زالت الحرب مستمرة والقصف متواصل، لذا ينبغي توجيه المساعدات إلى المناطق المنكوبة فعلًا، وعدم التذرع بحجة التعافي لإرسالها إلى مناطق آمنة لا تحتاج إلى مساعدات.

سبل مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية

في حال قيام نظام ديمقراطي جديد في سوريا إثر انتصار الثورة، ما هي الإجراءات والسياسات الواجب اتخاذها لمكافحة ظاهرة الفساد المالي والإداري المتفشية، وإرساء مبادئ النزاهة والشفافية والمساءلة في مؤسسات الدولة السورية الجديدة؟

مستقبلاً، لو استطاع السوريون العيش دون نظام الأسد وبعيداً عن حلفائه، فإن سيادة روح الديمقراطية سيوصل ممثلين حقيقيين عن الشعب في البلديات والمحافظة والإدارات والبرلمان والحكومة ورئاسة الجمهورية، وبذلك يكون هنالك الشخص المناسب في المكان المناسب وضمن آليات تداول سلطة بحيث لو أساءت الحكومة أو أي صانع قرار فإنه يعلم بأن الناخبين لن يعيدوا التصويت له دون رؤية نتائج ملموسة وتحسن في مستوى المعيشة والخدمات، بمعنى إن آلية التصحيح تكون جزءاً من النظام السياسي والاقتصادي.

أرى أنه لا بدّ من تبني مؤشرات الحكم الرشيد في سوريا المستقبل، وفق التعريف الأوروبي القائم على اثني عشر مؤشرًا تقيس مدى الشفافية ومكافحة الفساد وسيادة القانون، والكفاءة والفاعلية، ومرونة البيروقراطية، وينبغي أن تكون هذه المؤشرات ملزمة للسلطة التنفيذية، حيث يتم مراقبة تحسن هذه المؤشرات من قبل مؤسسات دولية، مع وجود رقابة من الشعب للتأكد من الالتزام بمبادئ الحوكمة الرشيدة.

كما أن وجود إعلام حر سيشكّل سلطة رقابية إضافية، تدقق في تفاصيل العمل الإنساني وتتحقق من وثائقه، ضمن ضوابط تكفل حماية الصحفيين وعدم الاتهام الجزافي. 

إلى جانب ذلك، فإن وجود برلمان منتخب يمثل صوت الشعب، سيساهم في التأكد من عدم وجود فساد في توزيع المساعدات الإنسانية والإغاثية.

البحث عن حل سياسي خارج الأطر الراهنة لتحقيق العدالة وسيادة القانون في مستقبل سوريا

كيف يمكن للفاعلين الرئيسيين في الحراك الثوري السوري أن يوظفوا التحديات الاقتصادية التي يواجهها النظام، لتعزيز أهدافهم نحو تحقيق التغيير الديمقراطي وبناء نظام سياسي جديد قائم على مبادئ العدالة وسيادة القانون؟

إن من المهم بالنسبة لفهم مصطلح “الحراك الثوري” النظر إليه من الأبعاد الثلاثة: الاقتصادية والسياسية والجغرافية، فعندما نتحدث عن الحراك الثوري السوري، يجب تحديد المنطقة الجغرافية التي يقع فيها هذا الحراك، وما إذا كانت تحت نفوذ روسيا أو أمريكا أو تركيا، وتحت حكم أي جهة سواء نظام الأسد أو المعارضة، فالحراك الثوري الحقيقي هو الذي يتمكن فيه الناس من انتخاب مجالسهم المحلية ويحكمهم مجلس منتخب، مع وجود تداول للسلطة وفصل بينها، أما الآن وبعد مرور 12 عامًا على الثورة، لا يوجد نموذج حقيقي للحكم الديمقراطي في أي منطقة سورية سواء كانت تحت النفوذ التركي أو الأمريكي أو الروسي.

ولكي نرسم آليات مستقبلية للتغيير الديمقراطي، يجب أن نفهم الأبعاد الجغرافية والاقتصادية والسياسية، فعلى سبيل المثال، إذا سار الوضع وفق مسار أستانة سيؤدي ذلك إلى حكومة وحدة وطنية مع النظام، تكون ملزمة بالاتفاقيات والديون الروسية والإيرانية وسيلعنها عشرات الأجيال السورية القادمة، مما يحول دون أي تغيير ديمقراطي حقيقي، كما أن بناء نظام جديد يتطلب تحقيق المواطنة وإمكانية كتابة دستور حقيقي، ولا بد من البحث عن حل سياسي خارج الأطر الحالية لتحقيق مبدأ العدالة وسيادة القانون، من مثل سيناريو ألمانيا الغربية الذي يوحد منطقتي النفوذ الأمريكي والتركي مع حل كل سلطات الأمر الواقع وتعيين حكومة تكنوقراط قوية، والعمل على انتخابات مجالس محلية كي يخرج ممثلين حقيقيين عن الشعب.

وفيما يتعلق بالحراك الثوري في مناطق مثل السويداء، فلا ينبغي اعتبار المطالب المعيشية للناس عيبًا أو ثورة مطلبية، فالفقر والجوع مهانة لكرامة الإنسان، وعلينا تشجيع الناس على التعبير عن مطالبهم والوقوف معهم لنيل حقوقهم والحفاظ على كرامتهم، ولقد وصل أهلنا في السويداء إلى نفس شعارات الثورة بعد أكثر من 12 عاماً حيث صدحوا بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام” وغيره من الشعارات، ورفعوا علم الثورة الذي هو علم سوريا التاريخي، المهم هو توحيد الخطاب الوطني لتحقيق العدالة وإقامة نظام سياسي يقوم على المواطنة واحترام المواطن، والعمل على مشروع نهضوي سوري يضع مستقبل سوريا على الخارطة الاقتصادية العالمية، بحيث تكون واحدة من الدول الناهضة التي تطوف منتجاتها وإبداعاتها أسواق العالم.

لقاء صحفي مع د. أسامة قاضي
إعداد أ. ميسون محمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top