هل يمكن التعايش بين التطبيع العربي والهيمنة الإيرانية في سوريا؟

هل يمكن التعايش بين التطبيع العربي والهيمنة الإيرانية في سوريا؟

منذ بدء الثورة السورية في عام 2011، تدخلت إيران بشكل مباشر في الصراع وتحالفت مع النظام السوري، وقدمت له الدعم العسكري والمالي لمساعدته في الحفاظ على سيطرته على البلاد. بالمقابل، دعمت العديد من الدول العربية المعارضة السورية، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق. كما علقت جامعة الدول العربية عضوية سوريا في عام 2011 بسبب عدم تجاوب النظام السوري مع المبادرات التي قدمتها لحل الأزمة سلميًا، واستخدامه الحل العسكري وجلبه لميليشيات موالية لإيران وحزب الله اللبناني لمساعدته في استعادة السيطرة على المناطق التي فقدها لصالح الجيش السوري الحر. الأمر الذي زاد من حدة الصراع الذي تسبب في مقتل مئات الآلاف من الأشخاص، وتشريد الملايين من السوريين، وتدمير البنية التحتية، وظهور العديد من التنظيمات المتطرفة ومشاركتها في الحرب، وهو ما أصبح يشكل تهديدًا للاستقرار في المنطقة بأكملها.

عوامل التطبيع العربي

شهد الموقف العربي تجاه النظام السوري تغيرًا ملحوظًا خلال الخمس سنوات الماضية، وذلك نتيجة لمجموعة من العوامل. وكانت الإمارات العربية المتحدة والبحرين هما الدولتان اللتان قادتا هذا التحول بعد أن أعلنتا في عام 2018 عن إعادة علاقاتهما الدبلوماسية مع النظام، وفتحتا سفاراتهما في دمشق. ومنذ ذلك الحين بدأت المناقشات داخل جامعة الدول العربية بشأن إعادة النظام السوري إلى الجامعة، لكن معارضة عدة دول على رأسها المملكة العربية السعودية حال دون ذلك.

شهدت المنطقة خلال السنتين الأخيرتين تطورات حاسمة، بما في ذلك التوترات بين الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية، خاصة السعودية، بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا ورفض الرياض الاستجابة للمطالب الغربية بزيادة إنتاج النفط لتعويض النقص العالمي بسبب العقوبات الغربية على صادرات النفط والغاز الروسي. وفي الوقت نفسه، بدأت جولات تفاوض بين السعودية وإيران، برعاية الحكومة العراقية، لتسوية المشكلات العالقة بينهما وتهدئة التوتر في المنطقة، وعلى الرغم من تقدم هذه المفاوضات إلا أنها توقفت بسبب التطورات السياسية والأحداث الأمنية التي شهدتها العاصمة بغداد على خلفية الصراع على تشكيل الحكومة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي الموالي لإيران. فتحت هذه التطورات الباب أمامَ الصين للعبِ دورٍ أكثرَ ديناميكية في المنطقة. استغلّتْ بكين هذه الفرصة لزيادةِ تقاربِها مع السعودية وعدد من دول المنطقة، حيث تمكّنتْ من إقناع المسؤولين السعوديين والإيرانيين بالتوقيع على اتفاقية لاستئنافِ العلاقات الدبلوماسية بين بلديهما. تضمّنت الاتفاقية العديدَ من البنود التي تتعلّق بالتعاونِ بين البلدين في عددٍ من الملفات، وخفض التصعيد في المنطقة، والعمل على حل جميع القضايا العالقة بينهما.

أسفرت الاتفاقية الإيرانية – السعودية عن تغير ملحوظ ومتسارع في السياسة الخارجية السعودية تجاه النظام السوري. حيث عُقِدَ في جدة اجتماع تشاوري لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ونظرائهم في الأردن ومصر والعراق في 14 نيسان/أبريل 2023 لمناقشة الموقف من القضية السورية، وإعادة النظر في قرار تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، وفتح الطريق أمام النظام السوري للمشاركة في القمة العربية التي ستترأسها السعودية والمقرر عقدها في 19 أيار/مايو الجاري. ومن ثم جرت زيارات متبادلة بين وزراء خارجية السعودية والنظام السوري، كما عُقِدَ لقاء تشاوري في عمان حضره وزير الخارجية فيصل المقداد. وانتهى الأمر بعقد اجتماع طارئ على مستوى وزراء الخارجية العرب في القاهرة، حيث تم الاتفاق على استئناف مشاركة وفود النظام السوري في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها اعتبارًا من 7 أيار/مايو الجاري.

في موازاة ذلك، زار الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي دمشق الأسبوع الماضي، وأشرف على توقيع عدد من الاتفاقية بين البلدين في رسالة إيرانية واضحة لجميع دول العالم بما فيها الدول العربية مفادها أن إيران لن تتخلى عن سوريا كمنطقة نفود لها، وأن التقارب بين النظام السوري والدول العربية لن يؤثر على مصالحها في هذا البلد.

في ضوء هذا المشهد، يثور السؤال التالي:

هل يمكن التعايش بين التطبيع العربي والهيمنة الإيرانية في سوريا، أم أن الصراع لا بد منه؟

في البداية يجب أن نفهم أن إيران ترى سوريا جزء أساسي من منطقة نفوذها، وأن الحفاظ على سيطرتها على البلاد يعتبر أمرًا حيويًا لمصالحها الإقليمية. في المقابل ترى الدول العربية أن الظروف الإقليمية تغيرت وأن هناك معطيات جديدة تقتضي التعامل مع النظام السوري من وجهة نظر مغايرة لتعزيز الاستقرار في المنطقة ومواجهة التحديات الناشئة بما في ذلك تهريب المخدرات، والأزمة الإنسانية في سوريا، إضافة إلى تطورات الأوضاع في لبنان وفلسطين.

مستقبل الوجود والهيمنة الإيرانية في سوريا

كان الدور الإيراني في سوريا خلال المراحل الأولى من الصراع في سوريا وحتى استعادة النظام السوري مدينة حلب نهاية عام 2016، يتمثل في تقديم الدعم المالي والعسكري المباشر وغير المباشر عبر الوكلاء والميليشيات المرتبطة بها. خففت سيطرة النظام على مدينة حلب من مخاوف الإيرانيين من سقوط نظام بشار الأسد، وبدأت تدخل المصالح الاقتصادية والسياسية في حساباتهم، حيث بدأت طهران بالسيطرة على بعض المشاريع الحيوية في سوريا مثل مناجم الفوسفات في تدمر وشركات الكهرباء والاتصالات الخليوية وغيرها مستغلة ضعف النظام السوري والديون الكبيرة التي ترتب عليه للحكومة الإيرانية. إلا أن التوترات بين إيران والولايات المتحدة على خلفية انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني وتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية واغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، واستمرار الهجمات الإسرائيلية على المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا، أدت إلى اتباع إيران نهجًا عسكريًا أكثر عدائية في سوريا والمنطقة بشكل عام. 

يقوم النهج الإيراني ما بعد اغتيال قاسم سليماني على مواجهة التحديات المحتملة خارج حدودها، لذلك صعدت من الهجمات في اليمن ضد السعودية والإمارات العربية وأحكمت سيطرتها على الحكومة العراقية ومنعت تولي منصب رئاسة الحكومة من خارج الإطار التنسيقي الموالي لها. وفي سوريا وضعت طهران استراتيجية جديدة تقوم على ضمان نفوذ طويل الأجل لها في البلاد، ومنع تقويضه من قبل المنافسين لها بما في ذلك حليفتها روسيا. 

تقوم الاستراتيجية الإيرانية على ثلاثة محاور: أولها، السيطرة على الجيش السوري والأجهزة الأمنية والميليشيات الموالية للنظام أو ما يسمى بــ”القوات الرديفة”. المحور الثاني يقوم على السيطرة على المعابر وخطوط الاتصال من إيران وصولًا إلى الضاحية الجنوبية في لبنان لضمان تدفق العناصر والسلاح والمعدات الإيرانية إلى حلفائها في دمشق والضاحية الجنوبية. أما المحور الثالث فهو التغلغل الطائفي ونشر التشيع في مناطق جنوبي وشرقي سوريا لتغيير النسيج الاجتماعي للمنطقة، حيث كثفت من وجود المنظمات التابعة لها تحت غطاء المساعدات الاجتماعية والخيرية وشراء الأراضي والممتلكات لتوطين عناصر الميليشيات الموالية لها.

تعايش أم تنافس؟

أعتقد أن التعايش بين الوجود العربي المحتمل، والهيمنة الإيرانية في سوريا سيكون صعبًا. إلا أن هناك عدة عوامل تجعل هذا الأمر ممكنًا إلى حد ما. ففي البداية، يجب أن نفهم أن التنافس في سوريا ليس فقط بين الدول العربية وإيران، بل يتضمن أيضًا عددًا من اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين، مثل روسيا وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين. وبالتالي، فإن التوصل إلى حل دائم للصراع يتطلب تعاون جميع الأطراف المعنية. 

يعتقد البعض أن التطبيع العربي مع النظام السوري من شأنه أن يحد من النفوذ الإيراني، وهذا غير دقيق. بل العكس هو الصحيح، حيث تصب إعادة النظام إلى الجامعة العربية في مصلحة طهران دون أن تتأثر مصالحها أو نفوذها هناك بسبب تغلغلها في كافة مفاصل الدولة وسيطرتها على القوى الصلبة بما فيها الجيش والأمن والميليشيات، والاقتصاد والمشاريع الكبرى، حيث ستكون طهران المستفيد الأول من تدفق الأموال العربية التي ستدخل إلى سوريا لإعادة إعمار ما دمره بشار الأسد وميليشياتها الطائفية.

بالمقابل لا تملك الدول العربية أية أوراق ضغط حقيقية ومؤثرة على النظام السوري، باستثناء ورقة إعادته إلى الجامعة العربية التي اْستخدمت مؤخرًا، إضافة إلى الأموال التي سترسلها بعض الدول الغنية للمشاركة في إعادة الإعمار والتي سيذهب ربما الجزء الأكبر منها للشركات الإيرانية. ويشكل فشل التجارب العربية السابقة قبل اندلاع الثورة السورية لعزل النظام عن إيران وحزب الله خير دليل على ذلك. فلا يوجد أي تأثير لأي دولة عربية على الجيش السوري ولا على الأجهزة الأمنية أو مراكز صنع القرار الأخرى، ولا يمكنها إقناع واشنطن برفع العقوبات عن النظام خاصة بعد التقارب السعودي الإيراني. على العكس من ذلك يعتبر التيار المتشدد في إيران سوريا جزء من “محور المقاومة”، ويدعم تحالف أوثق مع نظام بشار الأسد ووجود إيراني طويل الأجل على الساحة السورية. لذلك فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا خلال السنوات المقبلة هو تزايد النفوذ السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي الإيراني في سوريا.

مع ذلك، يمكن القول إن الوجود العربي في المشهد السوري سيكون تنافسيًا مع إيران دون الذهاب إلى مواجهة علنية بسبب اختلال موازين القوى في سوريا لصالح إيران على حساب الدول العربية. مع ذلك فإن تعويل بعض الدول العربية على استقرار سوريا بعد إعادتها إلى الجامعة العربية ناجم عن فهم خاطئ وعدم إدراك تبعات الوجود الإيراني هناك. فقد تتحول سوريا إلى ساحة مواجهة بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية، حيث ستستخدم طهران وجودها العسكري هناك لتهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية في حال استمرار التوترات بين الجانبين وعدم التوصل إلى تسوية لإحياء الاتفاق النووي الإيراني. 

لذلك، إذا أرادت الدول العربية أن تصبح جهات فاعلة في سوريا فهي بحاجة إلى رؤية استراتيجية موحدة للتعامل مع نظام بشار الأسد، وتطوير علاقاتها مع أصحاب النفوذ الآخرين في الملف السوري وهي الولايات المتحدة وتركيا وروسيا والصين، إضافة إلى استمرار الضغط على النظام السوري وربط التطبيع الكامل وأي مساهمة في إعادة الإعمار بالتوصل إلى تسوية سياسية من شأنها أن تخفف من التأثير والهيمنة الإيرانية في سوريا. 

د. وسام الدين العكلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top